الحديث عن الجزيرة يطول، وفي الحلقتين السابقتين ركزنا على السمات العامة للجزيرة ورموزها في مجال العمل السياسي والإبداعي والثقافي والاجتماعي والرياضي والروحي والعلماء الذين وضعوا بصمتهم في دفتر تاريخ السودان والتاريخ المعاصر وأرتال الشهداء الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الأرض والعِرض.. فالجزيرة احتضنت في حناياها وبين ضلوعها أكبر مشروع زراعي على مستوى العالم، فهو مشروع الجزيرة حمل جمل الشيل ومطمورة السودان ودخري الحوبة الذي كانت تعتمد عليه الدولة لوقت قريب في موازنتها خاصة الفصل الأول، بل كان القطن يتصدر قائمة صادرات السودان في الأسواق العالمية خاصة القطن بركات طويل التيلة والذي كان يأتينا في شكل أقمشة مصنعة عالية الجودة من لانكشير ويوركشير ويعود بعائد مجز»ٍ للدولة وللمزارعين وهذا مما شجع المزارعين على التمسك بزراعة القطن، هذا إلى جانب المحصولات الأخرى «الذرة والفول السوداني والقمح والخضروات والبقوليات» التي كانت تحقق أعلى إنتاجية، والمزارعون كانوا يعيشون في حياة رغدة وعيش كريم، بل المزارع كان أغنى من الموظف، وكل مستلزماته الحياتية متوفرة وفي متناول اليد وبأبخس الأثمان. ولكن الطامة الكبرى التي فتكت بالمشروع تتمثل في قانون 2005م الكارثة الماحقة والتدهور المريع الذي أصاب هذا المشروع العملاق فتغير نظام الري داخل الحواشات وسُلم لأُناس ليس من أهله.. روابط المياه وما أدراك ما روابط المياه، ومن ثم تم تشريد المفتشين والباشمفتشين ومديري الأقسام والخفير والباشخفير والصمد.. هذه المنظومة المتجانسة التي كانت هي مفتاح النجاح وتحقيق أعلى الإنتاجية بل قناطر الري وبيوت المفتشين والسرايات أصبحت خرابات ينعق عليها البوم، وكذلك الهندسة الزراعية والورش ومحطات تجمع الأقطان والسكة حديد أصبحت في خبر كان.. والحقيقة المُرة والمرارة التي سدت حلق المشروع تم ترحيل قضبان وبيعها لجياد «والظلم ظلمات» عندما دخلت أفران الصهر أبت أن تنصهر.. وكذلك بيعت القطارة التي كانت تنقل القطن من المحطات في التفاتيش إلى إدارة المحالج بمارنجان.. وبيعت المنازل وعدد من السرايات في عملية نهب وسلب وقرصنة، والمزارع التعبان الغلبان يلوك الصبر ويتجرع العلقم ولا حياة لمن تنادي.. وكل شيء في المشروع أصبح يشكو لطوب الأرض، فالمنظمات والبانكيتات التي كانت تُستخدم في ضبط المياه في الترع والقنوات والمواجر تلاشت تماماً الأمر الذي يجعل إعادة رجوعها إلى سيرتها الأولى ضرباً من الخيال، وكذلك القنوات في مواقع عديدة تم حفرها إلى عمق عميق «Dverdiging» مما جعل انسياب المياه إلى الحواشات غير وارد، أي أن هنالك أخطاء فنية حدثت بالجملة في المشروع وتُرك الحبل على الغارب للمزارع أن يزرع كيف يشاء ومتى يشاء وفي حواشة واحدة يمكن أن تزرع كشكولاً من المحصولات دون مراعاة إلى الجانب العلمي في زراعة المحاصيل مما جعل التخبط يسود ويضرب أطنابه.. ومشروع الجزيرة المغلوب على أمره أصبح حقلاً للتجارب الفاشلة والإرشاد الضعيف وغير المسؤول والإدارات النائمة واتحاد المزارعين الغائب تماماً عن الساحة والذي يعمل خارج الشبكة والبنك الزراعي الذي لا يعرف أهمية تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وفوق هذا وذاك رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة ومن معه في السرب فكل هؤلاء مسؤولون عما حدث من إخفاق وفشل لزراعة القمح هذا الموسم، وينبغي أن يحاسبوا حساباً عسيراً على كل كبيرة وصغيرة.. والجزيرة إلى اليوم تشكو قلة حيلتها من جراء الخراب والدمار الذي حاق بها وبأهلها وبمزارعيها الذين حصدتهم الملاريا والبلهارسيا وأصبحت مطاميرها التي كانت تؤكل كل أهل السودان خاوية على عروشها، بل اندثرت تماماً وأصبحت في طي النسيان «حليل الكان بيهدي الغير.. صبح محتار يكوس هدّاي.. من زي ديل واأسفاي.. من ناس ديل واأسفاي».. ومشروع الجزيرة بسبب الإهمال الشنيع والتفريط الشديد وعدم تقدير المسؤولية راح ضحية لتلك السياسات الخرقاء والعرجاء والبلهاء التي تقدم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة الوطنية فيا أهل الجزيرة قاطبة هل منكم رجل رشيد يبين لنا معالم الطريق ويفك الحيرة ويبل الريق ويعيد لنا زمن فكة الريق؟! الله أعلم.