أيام قضيتها متنقلاً ما بين فرانكفورت مدينة المال والأعمال في ألمانيا وهانوفر والعاصمة برلين.. أتاحت لي تلكم الأيام الوقوف على أشياء عديدة عن ألمانيا.. وعن الشعب الألماني.. وتلمسها واقعاً معاشاً.. وقد اندهشت لأنني وجدت عكس ما تمدنا به وسائل الإعلام عن عنصرية مدعاة ونازيون جدد.. غير أنني ما لمست من الشعب الألماني.. في الطرقات.. والطائرات والمطارات ومحطات القطارات وكرفقة في القطارات إلا كل ذوق وأدب وتعامل أرقى ما يكون.. أبرز ما يلفت النظر في الشعب الألماني تشبثه بلغته.. لا يميلون لاستخدام لغة غير لغتهم.. وعندما تكشف لأحدهم أنك لا تجيد الألمانية يتجه للحديث المغتضب معك بإنجليزية. برلين يوم العطلة.. مدينة أشباح الفكرة أو التصور المزروع في مخيلاتنا عن الغرب عموماً.. أنه صاخب وضاج بالحياة والحراك والسهر.. لكن علمت أن جل المدن الأوروبية تغفو باكراً.. وتصحو باكراً.. الأستاذ الصادق الرزيقي رئيس التحرير عندما ذكرت له ملاحظتي تلك قال لي.. إذا لم تكن الشعوب الأوروبية تنام باكرًا وتصحو باكراً هل كان بمقدورها بناء حضارة كالموجودة الآن.. وأضاف السهر لا يبني الأمم.. بل يفنيها.. ومدينة برلين يومي الأحد والسبت صباحاً عبارة عن مدينة أشباح.. أعمال مقفلة.. وأفراد يتنقلون بأرجلهم هنا وهناك.. وسيارات شحيحة.. ولأنني جديد في أوروبا فقد استقليت عربة تاكسي من فندق «موتيل ون» في شارع أورانيا الشهير إلى مبنى السفارة لمقابلة الأخ خالد موسى نائب السفير ببرلين.. وصلت مبنى السفارة فوجدته مغلقاً.. سرت راجلاً حتى توقفت في محل لأجهزة الجوال وخدماتها.. اضطررت لشراء شريحة لهاتفي ب «25» يورو وأجريت اتصالاً بنائب السفير الذي جاءني في مكاني برفقة الأخ صغيرون نائب سفير السودان في إيطاليا والذي جمعني معه فندق واحد.. كعادة السودانيين.. فقد حفظ خالد موسى برلين وعندما يمارس دور المرشد السياحي تحس أنه من أبناء برلين.. توقفنا أمام مبنى البرلمان الألماني والذي يجاوره مكتب المستشارة الألمانية انجيلا ميركل وقبالتهما المحطة الرئيسة لقطارات برلين.. وتلك المحطة شأنها محير.. تدخل وتخرج منها عشرات القطارات في اليوم عبر نظام إلكتروني دقيق كسائر الدول المتقدمة، وهي قطارات مريحة جداً لكن أسعارها مرتفعة.. إذ تبلغ قيمة تذكرة الذهاب من برلين إلى فرانكفورت «125» يورو.. وقد نصحني الأخ حسين دامة من أبناء مدينة ربك أن أشتري تذكرة «نهاية الأسبوع» لأنها تعادل «42» يورو فقط. معهد الدبلوماسية الثقافية في برلين.. ملتقى لشباب العالم معهد الدبلوماسية الثقافية الذي يقيم مؤتمرات وورش ودورات تدريبية في مختلف أنحاء العالم.. لكنه يركز على برلين هو معهد يؤمه مئات الشباب من الدبلوماسيين والمهنيين والصحفيين وغيرهم يتزودوا من دوراته وكورساته التي يحاضر فيها أساتذة أصحاب مؤهلات رفيعة، المعهد يتيح المشاركة لدوراته عبر الإنترنت وبرسوم تبلغ «150» يورو إضافة إلى «223» يورو رسوم إقامة لسبعة أيام في «موتيل ون» بشارع أورانيا، والمشاركة في هذه الدورات متاحة بالشروط التي ذكرتها يضاف لها الشروط القنصلية لمنح تأشيرة دخول لألمانيا، ومعلوم أن السفارة الألمانية من أقل السفارات منحاً للتأشيرات. قنصلة السفارة الألمانية بالخرطوم.. ليت كل دبلوماسي مثلها بعد أن قمت بتحويل رسوم المشاركة والإقامة الفندقية جهزت مطلوبات التقديم لتأشيرة الدخول لألمانيا.. أخذت موعداً عبر الهاتف، وفي الوقت المحدد ذهبت للقنصلية بشارع المعرض بري بداخل السفارة الأسبانية.. الموظفة المسؤولة سودانية.. تتعامل ببرود ولم تسألني إلا عن الطريقة التي عثرت بها على برنامج المعهد.. ناسية أن الإنترنت مفتوح وكانت كل أوراقي مكتملة عدا كشف الحساب.. قالت لي منذ اليوم وحتى تاريخ استلام جوازك يجب أن تحضر كشف الحساب.. تجاهلت الأمر وعندما ذهبت لاستلام جواز سفري وجدته غير مؤشر، مباشرة أرسلت رسالة عبر البريد الإلكتروني للقنصلة التي تفاعلت معي بطريقة جعلتني أحترم ألمانيا وشعبها.. طلبت مني إرسال كشف الحساب وقد كان، ثم عادت لتقول لي أحضر لي جواز السفر في سفارة ألمانيا في كافوري الثامنة والنصف صباحاً، وقد كان، لأعود إلى مكتب القنصلية في بري بعد ساعة ونصف لأجد التأشيرة ملصقة على الجواز هذا السلوك الرفيع جعلني أقدر صنيع القنصل، وفي ألمانيا وجدت شعباً طيباً ودوداً متعاوناً.. لم ألمس أي نظرة عنصرية أو سلوك غير إنساني تجاهي، وطوال تجوالي لم يصادفني شرطي يسألني عن أوراقي.. تمتعت بتجوال حُر.. جعلني أدرك أن تلكم البلاد الحرية فيها مقدمة على ما عداها، لذلك عندما حانت لحظات الرحيل كنت أتوق لقضاء وقت أطول.. للاستمتاع بالأجواء الباردة والطبيعة الخلابة والإنسان المتحضر. مهندس سوداني يطلب تقبيل رأس د. عثمان النزير العضو المنتدب السابق بشركة سكر كنانة بينما أنا أهم بمغادرة عربة التاكسي أمام مطعم الرضا الإيراني والذي زرته قبلاً مع نائب السفير الأخ خالد موسى استوقفني شخص بدأ في العقد السابع.. بادرني بالتحايا.. سألني هل أنت د. مامون؟ قلت له لا.. اعتذر وقال لي إنه ابن صديقه وهو قادم من بازل السويسرية وهاتفه انطفأت بطاريته.. تركته وولجت المطعم.. إذ كنت على موعد مع عدد من أبناء النيل الأبيض ببرلين تناولنا طعامنا وتأنسنا وعندما خرجنا رأيت الرجل ما زال متوقفاً لكنه هذه المرة جالس خلف مقود عربته المرسيدس الفاخرة.. طرقت الزجاج ففتح الباب ونزل.. سألته هل ابن صديقك حتى اللحظة لم يصل.. أجاب بالنفي.. ثم أشار لي بيده أن أركب معه داخل العربة لبرودة الجو.. جلست جواره داخل العربة وبدأ في الحديث عن السودان وعن عمله مهندس زراعي وقدومه لألمانيا قبل سنوات طويلة.. بدأ في صوته حنين للسودان.. قال إنه من منطقة الدبة في الشمالية من إحدى قراها شرب اسم القرية من ثقوب ذاكرتي الخربة، عندما قال إنه كان يعمل في كنانة أوقفته.. وقلت له هل عملت فيها زمناً طويلاً قال لي هي خمس سنوات حافلة.. وبدأ في ذكر معالم كنانة القديمة التي اختفت الآن، وحمّلني وصية أن أزور السيد عثمان النزير وأقبِّله في رأسه نيابة عنه، قال لي هل ما زال عثمان عضواً منتدباً؟ ضحكت ونفيت، لم يسألني من هو العضو المنتدب الحالي وتجاوزت الأمر لأسأله وماذا تعمل هنا في برلين، قال لي: لقد تقاعدت لكنني أتحرك.. إلى جانب عملي كاستشاري لإحدى الشركات المنتجة للمحاصيل الزراعية، قلت له هل أنت مستعد للعودة إلى السودان للاستفادة من خبراتك وعلمك قال لي بحماس جداً.. نحن لاقين نخدم بلدنا.. لكن الأخبار بتقول إنو البلد اتغيرت كثير.. قلت له وهل ربع قرن يبقى فيه شيء على حاله، ودعته وأنا أهم بالانصراف جاءه شاب ثلاثيني أدركت أنه ابن صديقه بعد أن سأله وهرولت من عصف البرد تجاه عربة تاكسي وأنا مندهش لرجل كهذا تغيب عنه أخبار ومستجدات وطنه لعدم متابعته لكنه يبقى ممتلئاً به.. يحن إليه.. ويذكر تفاصيل ذكرياته.. بل ويطلب مني تقبيل رأس السيد عثمان النزير العضو المنتدب السابق لشركة كنانة وقد وعدته بأني سأفعل.. وحتماً سأفي بوعودي. د. علي الحاج ووصية للشباب السوداني: د. علي الحاج محمد المقيم بمدينة بون قال لي إنه يدعو الشباب للخروج متى أُتيحت لأحدهم الفرصة.. لأن السفر يتيح للمرء تجارب جديدة ووقوف على حضارات وسلوك شعوب ويوسع الآفاق.. ولمست صدق رؤية د. علي بانطباعي الذي عدت به عن الشعب الألماني وأنا الذاهب إلى هناك بانطباع مختلف.