عُقدت ندوة التعددية كما ذكرنا في الولاياتالمتحدة، وهذا أمرٌ له دلالته ومغزاه، فالعالم العربي لا يزال محكوماً بروح القبيلة، وشيخ القبيلة، ولا يزال يفتقد المنهجية التي يمكن أن يتقبَّل بها الغير ويتعامل معه، استيعاباً وفكراً، وحضارةً وثقافةً، ولأنّنا أغلقنا أنفسنا في محيط جغرافي بشري أصبحنا عاجزين عن تجاوز إقليميتنا إلى عالمية الإسلام ورحابته التي استوعبت في الماضي معطيات الحضارات القديمة، واستوعبت شعوبها على اختلاف ألسنتهم وأديانهم، وألوانهم وأعرافهم ليقولوا لحُكّام العالم : «الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومِن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده» ونجح في ذلك وأقام الأمة الخيرية الوسطية دون طغيان أو تجبُّر أو استعلاء، وخلَّصها من نزعات العصبية والنظرة الأُحادية، ومناهج المريدية المشيخية الاستبدادية، التي تؤدي إلى التفرُّق والتمزُّق وقصر الأمر على اللون الواحد، الذي يحجب الألوان الأخرى، يُضيِّق حرية الانفتاح على المذاهب والآراء الأخرى. نرجع إلى بحث الدكتور «طه العلواني» الذي يرفض مصطلح التعددية لأنَّه ترجمة لمفهوم غربي يمثِّل جزءاً من مفاهيم نشأت ونمتْ داخل النسق الفكري الغربي اللبرالي مثل: الديمقراطية، المجتمع المدني، تداول السلطة، المشاركة السياسية، توازن القوى، صيانة الحقوق، حقوق الأقليات، حقوق الإنسان، وغير ذلك من المفاهيم التي ترى أنّها انبعثت عن «المنهاج المادي» كقاعدة فكرية نشأت في إطار الخصوصية الأوربية، والإستراتيجية الأوربية العلمانية، الهادفة للسيطرة على الطبيعة تمهيداً للسيطرة على البشر. واستعرض الدكتور العلواني المعالم والمؤشرات التي تتعلّق بمفهوم التعددية كما يفهمها الغرب مشيراً إلى أنّ هذا المفهوم فرض نفسه على العقل العربي المسلم، ضاغطاً عليه أن يتبنَّاه ويقبله، بصرف النظر عن ما يميِّز العالم العربي من خصوصية وظروف موضوعية خاصة بها. وقد تعامل كثير من الكُتَّاب مع هذه الإشكالية من منطلق تقليدي وروَّج لها، كما أنَّ بعض الكُتَّاب الإسلاميين أضفوا عليها تحت ضغط الظروف شرعية من منطلق المقاربة والمماثلة والقياس، مع عدم التنبيه على الفوارق الواضحة حتى قطعت الآيات والأحاديث من سياقها لإثبات شرعية المصطلح والأخذ به، وهذا يقابل أيضاً ما فعله ائم على التعارف دعاة تحريم المصطلح الذين لم يطوِّعوا حتى الآيات والأحاديث لتعزيز تحريمهم. وفي سبيل الاقتراب معرفياً من هذه الإشكالية، أشار الباحث إلى جملة من الأبعاد لابد من ملاحظتها، منها: 1/ إنَّ التعددية في إطارها المعرفي قضية يمكن التعامل معها، إذا سلَّمنا بعدم أولوية أي إنسان أو جماعة بشرية في ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة مهما كانت قوة اعتقاده، لأنّ تيقُّنه لا يعطيه الحق بإعلان ذلك ورفض الحوار حوله أو فرض ذلك على الآخرين. لذلك أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع إيمانه وتيقُّنه بأنَّه على الحق، وأنّ الله هو الرزَّاق، وأمره بإعلان هذا الإيمان، أمر مع ذلك أن يخاطب المشركين بقوله تعالى: «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ». 2- إن إدراك البشر للحقبة متعدد ونسبي وهم تبعًا لذلك يختلفون لأسباب ذاتية أو موضوعية والتسليم بهذا يقتضي الاعتراف بأنه يحق للبشر جميعًا الحق في الكرامة الانسانية وكرامة الاختيار ولو اختلف فريق مع الآخر في وجوه الإدراك للحقيقة أو مسالكه إليها. 3- إن الايمان بتعدد إدراك البشر للحقيقة يستلزم أن تكون وسيلة التفاعل والتدافع بين الناس هي الحوار القائم على التعارف ثم الاحترام فالفهم فالإقناع فاتخاذ المواقف أو تغييرها ليتحقق التدافع الحضاري بين الناس تحت قاعدة «لاإكره في الدين« ولاإكراه في العلم والمعرفة. 4 إن التنوع الفطري في اختلاف الألسنة والألوان والعروق وهي من آيات الله يستدعي تنوعًا في الأمور الاختيارية كالدين والمذهب والنظام السياسي والاقتصادي وغيرها وهذا التنوع المعترف به يؤدي الى التعارف والتكاتف والتعاون على أساس قيم الحق والعدل والإحسان. 5إن التركيز على المدخل السياسي في فهم «التعددية» أوجد كثيرًا من الاضطراب في العالم العربي واستغلت كشعارات تجزئة وتفكيك للأمة العربية يستهدف روابطها الاجتماعية والاقتصادية لإعادة تنظيمها وفق الدور الإسرائيلي المخطط له في إطار النظام العالمي الجديد الهادف لإبعاد الأمة من هُويتها العربية والإسلامية وبما يمكِّن اليهود من السيطرة وقيادة المنطقة والسيطرة على مقدراتها الكاملة. فالتعددية على هذا مفهوم حادث مأخوذ من نسق غربي معرفي ترتبط به شبكة من المفاهيم الخاصة بالنسق الغربي والحضارة الغربية فما هو الموقف العربي المحتمل ؟هل نأخذ بهذا المفهوم ونُسقطه على وعينا وواقعنا كما هو؟؟أو نبحث عن بديل إسلامي عربي؟ هذا ما سنوضحه في المقال القادم.