لعله من نافلة القول أن أقول إن صوت الشعر قد واكب الحركة الوطنية السودانية الحديثة إبان التنادي للحرية والجلاء.. إذ ذاك كان الصوت منقسماً في عمومه بين التيار المنادي بوحدة وادي النيل والتيار الاستقلالي.. ووحدة وادي النيل وقتها كانت تعبيراً وجدانياً لا يتجاوز العاطفة والانفعال في كثير من الأحيان.. إلا أن التيجاني يوسف بشير (1912 1937م) كان يتطلع إلى وحدة فيها ندية عبر عنها بوضوح في مقاله النثري: «ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان» حيث تسمعه يقول: «إن شيئاً من سيرة مصر الأولى في السودان لن يعود إليها والحالة كما هي من تفكك في علائق الأدب وتباين في وجهة التفكير هذا كلام صريح لا مكان فيه للتأويل وإنا لنرى قبل كل شيء أن تقوم الصلات على الأدب في بعض ما تقوم عليه، ولن يمر على ذلك عهد إلا ويجيء من بعده ما يكفل للقطرين الشقيقين أن يدفقا على مجرى واحد كما يفعل النيل. لا أن نظل نقرأ ونسمع بإلحاح مصر في سبيل السودان، فنعجب لها وهي لا تعرف عنا شيئاً صحيحاً، فإن من الخير لنا ولها أن نلتقي الآن على الفكر ونتصل على الأدب من أن نظل هكذا لا صلتنا بصلة، ولا تعارفنا بتعارف، ولا انفصالنا بانفصال». قد يعاب فنياً على الكلمة في كثير من نصوص تلك المرحلة التقريرية والمباشرة، إلا أنه ينبغي أن يقرَّ في وجداننا أن مجابهة الاستعمار وتعبئة الحس الوطني كانا يقتضيان ذلك الهتاف.. من أمثلة تلك التقريرية المعنية مقطوعة «صراع الأحزاب» للتيجاني عامر (1908 1987م) في ديوانه «جد وهزل»: رعاك الله يا وطن الأسود وصان حماك في كل الحدود أصبت بعصبة ضلت ضلالاً وما التزمت لأجلك بالعهود يفلسف بعضهم رأياً خطيراً يخالف مسلك الرأي السديد ويهدف بعضهم بخزعبلات حصيلة كل تفكير بليد ومن يهفو لفصل وانشقاق ومن يسعى لتنظيم جديد ومن يغفو على حلم خبيث يحن إلى التفكك من بعيد ومن قصد التآمر باحتراس ومن صنع التكتل في صعيد بني وطني حذار من التراخي ومن أخذ المسائل بالجمود ومن عطف على التمساح يبكي بدمع الثاكلات على الفقيد دعوا حلو الحديث وقيدوهم بأغلال ثقال من حديد يذكر في تلك الحقبة الحقبة التي كان يقود فيها طلائع النضال الوطني مؤتمر الخريجين العام أناشيد المؤتمر.. «للعلا» لخضر حمد (1908 1970م) و «صرخة روت دمي» لمحيي الدين صابر (1919 2004م ) و «صه يا كنار» للصاغ محمود أبو بكر (1918 1971م)، ويذكر في حداة المؤتمر شاعره علي نور (1903 1972م ): هذي يدي لسماء المجد أرفعها رمزاً يسير إلى المستقبل الحسن لما نرجيه تحت الشمس من وطر وما نفديه بالأرواح من وطن دقوا البشائر للدنيا بأجمعها وللعروبة من شام ومن يمن إنا هممنا وأرهفنا عزائمنا على النهوض بشعب للعلا قمن الله أكبر هذا الروح أعرفه إذا تذكرت أيامي ويعرفني وبفعل التطور السياسي في مفاهيم التنوع الثقافي من داخل دوائر الدولة المدنية الحديثة وهي مفاهيم حديثة نسبياً قد يأخذ بعض نقادنا اليوم على كثير من نصوص شعرنا الوطني المتطلع لفجر الحرية في ليل المستعمر المدلهم، ارتفاع نبرة الحس العروبي كما عند خليل فرح (1894 1932م) في وطنيته الدالية: وقفاً عليك وإن نأيت فؤادي سيان قربي في الهوى وبعادي يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي وفيها يقرن مجد بلاده بسؤدد الشرق: وافى الربيع وفي ربوعك فتية كانوا بطلعتهم ربيع بلادي زهر كأن وجوههم من نبلها زهر الكواكب للعيون بوادي أبناء يعرب حيث مجد ربيعة وبنو الجزيرة حيث بيت إياد متشابهون لدى العراك كأنما نبتت رماحهم مع الأجساد وكما عند محمد عثمان عبد الرحيم في نشيده الجهير «أنا سوداني»: أيها الناس نحن من نفر عمروا الأرض حيثما قطنوا يذكر المجد كلما ذكروا وهو يعتز حين يقترن ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن نزحوا لا ليظلموا أحداً لا ولا لاضطهاد من أمنوا وكثيرون في صدورهمو تتنزى الأحقاد والإحن دوحة العرب أصلها كرم وإلى العرب تنسب الفطن أيقظ الدهر بينهم فتناً ولكم أفنت الورى الفتن أنا سوداني والحكم على تلكم النصوص بتلك الطريقة المتعسفة في النقد لا يسعفنا بالقراءة الدقيقة للأحكام، إذ إن الموضوعية تقتضي أن نقرأ النصوص في سياقها، فالنصوص تلك تعبير أوضح عن انتماء السودان إلى موجة الكفاح العربي في مواجهة الاحتلال الأوربي البغيض. والوعي بالسودان وقضيته غير القابلة للمساومة أوضح ما يكون في «منابر» المجذوب (1919 1982م) حيث جمع في ذلك الديوان شعره المنبري الصاخب شعر الليالي السياسية والمواقف الهادرة.. الوطنية جرت في عروق المجذوب دماً، وفي لسانه بياناً.. حتى أمداح المجذوب وقصائد مناسباته الحارة تعج بذلك الحس الوطني الدفاق. «عبد الله الطيب في مجمع اللغة» بائية عصماء اهتبلها المجذوب سانحة وهو يتمدح ذا قرباه عبد الله الطيب (1921 2003م) وهو الفتى والعبقري الأوحد ويعتز بأهليه المجاذيب، ويكشف المجذوب في وضح الشمس طرفاً من تاريخنا الوطني الناصع، وهو تاريخ في مجمله شفاهي غير مجحود، وغير مذكور، وغير مسطور: ما قتلنا لدى الكويب لقد صلنا على الترك في تماي وتيب وسقينا أبا طليح دم الكفر وبأس البجاة في هندوب وفرشنا مع الخليفة نلقى الموت جهراً بأعين وقلوب تتحوى بنا البلاد جلونا الدين سيفاً مكشفاً للكروب ما طلبنا في خدمة العلم أجراً غير أجر الفريضة المكتوب زرعنا والسماح ملء المطامير سحاب على الزمان الجديب «حسب الإنجليز أنهم لم يتركوا للسودان مستقبلاً بعد كرري الماحقة، ولكن المنابر التي نحتتها الخلاوي من جيل الهزيمة قامت تحمل رؤاها وتتجاوز بها الوجود الأجنبي المحتل إلى تراثها العريق وتعود به متدفقاً في الحاضر، وكان استحضار هذا التراث عملاً بطولياً يصارع الاحتلال الذي يعرف بأس العربية الفاعل ومستقبل السودان في هذه اللغة، وخروجه بوجهها الصبيح إلى إفريقية».