اكتسب بحق اسم «أبو المثاليات».. كان صارماً تحكمه مبادئ مثالية تجبره الإصغاء حين يتحدث الآخرون.. ولا يضحك من غير سبب.. ويحرص على أن يوقر الصغار الكبار.. ويسلم الراكب على الماشي.. والواقف على الجالس وألا يأكل الأبناء قبل الأباء.. وهو متزمتا في تطبيق تلك المبادئ ويسعى جاهدًا لتطبيقها في البيوت وفي الأسواق وفي كل مكان.. ويتمتع بشجاعة نادرة في مواجهة التصرفات التي لا تتواءم مع مبادئه.. ولا يشعر بالحرج حين يتدخل ليذكر الناس بأخطائهم وليس بالضرورة أن يعرفهم أو يراهم للمرة الأولى.. المهم عنده أن يكون الناس مثاليين في سلوكياتهم لكنه مع ذلك هو متسامحاً وديمقراطياً لا يعتد برأيه بل يتسع صدره لتقبل الرأي الآخر إذا كان ناضجاً ومقنعاً وحجته في ذلك أنها ظاهرة حضارية تدل على النضج وسبيلا يقود للإلفة وتقدم المجتمع ويريد منهم الاعتراف بأخطائهم كحالة عندما انبرى يجادل أطفالاً صغاراً يلعبون الكرة في الشارع المجاور لمنزله. من فضلكم يا أبنائي لا تلعبوا هنا مرة ثانية. ورد عليه طفل واضعاً يديه خلف ظهره لكن أين نلعب يا عم «أبو المبادئ» إذا كانت منطقتنا محرومة من ساحات اللعب؟ آسف.. آسف قالها وهو مطأطأ الرأس يعاني إحساساً مؤلماً.. ثم واصل.. كلامك صحيح يا ابني الآن لا مانع من اللعب بس التزموا بتمرير الكرة أرضاً حتى لا تسقط في المنازل. عندما أنهت ابنته المرحلة الثانوية اجتهد كثيرًا في البحث عن جامعة تكون ملاذاً للمثالية وتبعث الطمأنينة في نفسه.. قضى أياماً عديدة يسأل كل من خطر لي بأن لديه تجربة في هذا الشأن فجاءته الآراء متناقضة ولم تحقق رغباته كانبعضها مبشرًا بالتفاؤل وغيرها مشحون بالتشاؤم المرعب لذا تحدث لنفسه: من رأى ليس كمن سمع من أجل ذلك ركب «أبو المباديء» سيارته وغادر منزله صباح يوم مبتدئاً جولة خصصها لمعرفة الجامعة المثالية لابنته فوقع بصره على الأقرب من المنطقة التي يسكنها وحين وصلها اتخذ لنفسه مكاناً قصياً أتاح له رؤية كل ما يجري في ساحتها بوضوح تام.. جلس في داخل السيارة ومعه صحيفة يومية اشتراها من المكتبة القريبة من الجامعة كانت خطته تتركز على استخدامها كأداة يتظاهر بقراءتها وهو يراقب ما يجري في ساحة الجامعة لم يمكث وقتاً طويلاً على مجيئه حتى كان الطلاب والطالبات يغادرون قاعات المحاضرات وهم في حالة هرج ومرج كحال أطفال صغار فرحين بانتهاء اليوم الدراسي وفي غضون لحظات توزعوا على مجموعات صغيرة تتآلف كل واحدة من طالب وطالبة ثم انتحوا مكاناً بعيدًا عن الأعين بينما القليل منهم اتجه إلى قهوة النشاط والكافتيريات الخارجية.. ولمدة من نصف ساعة كان يتابع من موقعه في السيارة بحرص شديد ما يجري في ساحة الجامعة وأثناء ذلك لاحظ طالباً وطالبة يمشيان جنباً إلى جنب في هدوء شديد نحوه ما يوحي أنهما يرغبان في قضاء أطول وقت معاً وحين فوجئا به، ابتعدا عنه بخطى سريعة.. كان الطالب يأكل «ساندوتش» بينما هي تحتسي زجاجة مياه غازية.. وأثناء سيرهما كانا يتلامسان بجسميهما في تصرف يبدو متعمداً وأحياناً كان يقترب هو منها أكثر ليهمس في أذنها بما يفرحها ويضحكها ثم لا يتوانى في أن يطعمها بيده في فمها مما يأكل في حين تمد له هي زجاجة المياه الغازية فيحتسي منها قبل أن يعيدها إليها كانت تلك التصرفات ترعبه وتشحن نفسه بثورة من الغضب فقد رأى فيها استفزازا وإهانة لمبادئه وخيل إليه أنهما يقصدانه بتصرفاتهما غير اللائقة فاشتاط غضباً وسيطر عليه إحساس قوي بالانتقام منهما فهم بمغادرة سيارته واللحاق بهما لكنه استجاب لفتاة جاءته تطلب المساعدة في الوصول إلى البنك لصرف حوالة نقدية أرسلها والدها من الخارج وأثناء السير انتهز الفرصة ليسألها. ٭ هل الدراسة في هذه الجامعة مكلفة؟ بالطبع يتوقف على التخصص الأكاديمي الذي ترغب دراسته ٭ بالمناسبة من هو ذلك الشخص الذي يمشي إلى جوار تلك الفتاة؟ طبعاً هو زميلها في الكلية ٭ لكنهما يأكلان الطعام ويشربان البارد؟! ابتسمت هي من غير أن تجيب.. ٭ أقصد أن كل واحد منهما كان يطعم الآخر في فمه وما هي المشكلة لطالما هما زملاء في الكلية هل تقصدي أنه ... لكن قبل أن يكمل سؤاله نزلت عن السيارة ودخلت البنك بينما أقفل هو راجعاً إلى حيث كان واقفاً بالقرب من الجامعة محاولاً تكييف نفسه مع مناظر مجموعة من الطلاب والطالبات يتعاملون مع بعضهم البعض كأنهم عشاقاً يتنزهون في حدائق.. ومن بعيد شاهدت طالباً وطالبة احتضنتهما شجرة نعيم وارفة وقد تعمدا أن يوليا بوجهيهما بعيداً عن أعين زملائهما واستمرا في جلستهما فترة طويلة غير عابئين بما يجري في قاعات المحاضرات. وبينما هو كذلك استرعت انتباهه طالبة أخرى كانت تقف على مسافة غير بعيدة منه تتحدث بانفعال وصوت مرتفع من هاتفها الموبايل وأحياناً تجهش باكية بحرقة فقال في نفسه: بالتأكيد هذه الفتاة المسكينة هي ضحية خداع من شاب لئيم سلبها شيئاً مهماً لا بد من معرفته حتى أخذ حقها منه كاملاً. نزل من سيارته واتجه بخطى مسرعة نحوها ثم وقف على مسافة قريبة جدًا منها حتى كاد يلامسها ثم بقي منتظراً ريثما تفرغ هي من الكلام وبينما كانت تسعى للابتعاد عنه كان يصر هو على ملاحقتها والاقتراب منها، وفي لحظة انفعال خطف الهاتف من يدها ليتحدث معها اعتقد إنه مجرماً ليفاجأ بأن محدثها هو والدها فتراجع إلى سيارته مصعوقاً وقلبه ينبض بشدة كيف تخطى مبادئه بهذه الحماقة؟.