كل مرة تخرج علينا المحليات بقرارات لنظافة البيئة ولكن لا يتبعها عمل جاد، حتى إنني فقدت الثقة في أن مدننا ستنظف يوماً. ولذلك فإني أقترح أن تستخدم المحليات غرباناً تعهد إليها بتنظيف الشوارع والساحات. كل ما أرجوه أن تستعيدوا من ذاكرتكم ما قلته لكم من قبل. فعندما هشم قابيل جمجمة أخيه هابيل، معلناً حدوث أول جريمة قتل في تاريخ البشرية وأول «خيبة» ما بعدها خيبة فيما يفعله بجثة أخيه «فأصبح من النادمين»، أرسل الله سبحانه وتعالى غراباً يبحث في الأرض ليري قابيل كيف يواري جثة أخيه. «فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين» المائدة «31»، وهكذا ورثت ذرية آدم إلى يومنا هذا شيئين من ممارسة جريمة القتل: الخسران والندم الذي يعقب الحيرة الكبرى ألا وهي التخلص من الجثة. ألم تلاحظوا أن المجرم يرتكب جريمة القتل في ثوانٍ ولكنه يظل في حيرة من أمره: كيف يتخلص من الجثة؟ وإذا تمكن من التخلص من الجثة، كيف يتخلص من أداة الجريمة. ولكن لماذا الغراب؟ الإجابة.. لا ندري .. فذلك يدخل في علم الله. وأي ضرب من الاجتهاد في التفسير في هذا المجال هو من قبيل التخمين الذي لا يخلو من مجازفة ليس لها داعٍ. والذي نعلمه أن الله قد اختار ذلك الغراب لإعطاء الدرس الأول، تماماً مثلما لا نعلم لماذا اختارالهدهد ليعمل في استخبارات سيدنا سليمان عليه السلام.. حيث أن التقرير الذي رفعه لسيدنا سليمان عن مملكة سبأ أدى إلى انهيار تلك المملكة وذوبانها في ملك سليمان. «وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين «20» لاعذبنه عذاباً شديداً أو لاذبحنة أو ليأتيني بسلطان مبين «21» فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين «22» أني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم «23» وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون «24» صدق الله العظيم «سورة النمل». ذلك هو التقرير الذي رفعه الهدهد لسيدنا سليمان، وقد اتضح فيما بعد أن الهدهد كان غائباً في مهمة رسمية استخباراتية.. تتعلق بجمع معلومات عن دولة مجاورة. ولكن لماذا الهدهد وهناك الصقر يملك من المؤهلات التي تجعله يتفوق على الهدهد؟ فهو قوى في طيرانه ويستطيع أن يطير على ارتفاعات شاهقة أو منخفضة مما يجعل مهمة رصده على أجهزة رصد مملكة سبأ مهمة عسيرة. كما أنه يتمتع بحدة في النظر تفوق مئات المرات حدة نظر الهدهد. وتقاريره التي يرفعها لسيدنا سليمان ستكون أكثر دقة. «وورث سليمان داؤد وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين» النمل «16» والحقيقة أننا لا ندرى لماذا وقع الاختيار على الغراب لإعطاء ذلك الدرس. ولكننا يمكن أن نخوض مع الخائضين في مواهب الغراب دون أن نربط ذلك بعلة اختياره. الغراب ينتمي إلى عائلة الغرابيات CORVIDAE التي تضم طيوراً أخرى مثل الغداف RAVEN وأبا الزريق JAY والعقعق magpie والزاغ JACKDAW ومن ناحية الذكاء يعد الغراب من أذكى الطيور، بل لا يدانيه طائر آخر. إن نصفى الكرتين الدماغيتين كبيرتان بدرجة ملحوظة. وان نسبة كتلتهما الدماغية إلى نسبة وزن الغراب تفوق أي نسبة أخرى عند الطيور حتى في حالة النعامة التي تملك أقل نسبة. أمة الغربان سبق وجودها وجود الإنسان الذي أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. ولذلك أراد الله أن يكون الغراب هو معلمه الأول عندما قتل قابيل أخيه هابيل. وربما لو لم يبعث الله بذلك الغراب الذي أعطى درساً عملياً في كيفية التخلص من الجثث لبقي الإنسان حائراً إلى يومنا هذا. وكلما تطاول الإنسان بقدراته وطغى وتجبر وظن إنه «ربكم الأعلى» في فرعنة تاريخية امتدت إلى يومنا هذا أعاده الله إلى مواعين العجز وذكره بها: «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» الحج «73» والآن فإن الحضارة الحديثة أنتجت مجتمعاً استهلاكياً يفرز من النفايات الأطنان يومياً دون أن يفرز أداة فاعلة لمعالجة تلك النفايات. فنمت أكوام النفايات والقاذورات على شوارع وأزقة المدن كالدمامل. وارتفعت سحائب المكروبات والروائح النتنة حول المجاري والجداول التي نحفرها عاماً بعد عام وكأننا في مغالطة مستدامة. وكما بعث الله سبحانه وتعالى غراباً يرينا كيف نواري موتانا في بداية وجود الإنسان، جاءنا هذا الغراب «في الصورة المرفقة مع هذا المقال» ليرينا كيف نتعامل مع نفاياتنا. معليش دعونا نتضاءل قليلاً ونقلد هذا الغراب المعلم فربما استفدنا شيئاً.