الاتفاق النووي الإيراني بين طهران والقوى الغربية الذي تم بجنيف في أكتوبر الماضي كان كفيلاً بتفكيك الألغام المزروعة أمام نجاح مؤتمر «جنيف 2» الخاص بالتسوية السياسية للأزمة السورية وتمهيداً للطريق أمام دول المنطقة العربية من أجل ركوب قطار التسوية، نستطيع أن نؤكد أن ما بين «جنيف النووي» و«جنيف 2» «الخاص بالتسوية السياسية في سوريا» خيوط متصلة، فإذا أردنا أن نعرف ما هي النتائج المتوقعة من الثاني يجب أن نعرف ماذا جرى في الأول ليحدث نوع من الربط الموضوعي بين ملفات النزاع في المنطقة. سوريا كشفت حدود الآلة العسكرية الأمريكية في العالم، وما يمكن أن تُقدِم عليه واشنطن من الآن فصاعداً وما يمكن أن تحجم عنه. وإن ثمة قوى أخرى استعادت قوتها كروسيا وهي تبني قوتها مثل الصين ولم يعد النظام العالمي الجديد عالماً افتراضياً، بل صار عالماً واقعياً يترسخ أكثر فأكثر، قادة الكرملين الذين استوعبوا درس ليبيا بعدما تجاهلهم الغرب بصورة مهينة في أعقاب تأييدهم لسقوط نظام القذافي اعتبروا أن وجودهم في سوريا وتمسكهم بنظام الأسد هو الرد المناسب على القوى الغربية والمعسكر الأطلسي الراغب في الاستفراد بالمنطقة. بعد أن أرسل الصراع السوري ارتداداتهُ الداخلية عبر الحدود الإقليمية والدولية أجمع المراقبون على أن«مؤتمر جنيف 2» «مؤتمر البحث عن سلام سوريا» هو ممر إجباري أمن للقضية السورية وبالفعل كانت جنيف هي السقف الذي جمع طرفي النزاع السوري «حكومة ًومعارضة» في غرفة مفاوضات واحدة لأول مرة منذ ثلاث سنوات هي عمر الصراع السوري ولكن رغم كل الحراك الدبلوماسي والسياسي الذي شهده قصر الأممالمتحدةبجنيف حيث التأمت مفاوضات الجولة الأولى تحت رعاية أممية برعاية الأخضر الإبراهيمي إلا أن الجولة الأولى من المفاوضات بين طرفي النزاع السوري التى انتهت مساء الجمعة الماضي 30 يناير 2014 خيبت آمال وتطلعات الشعب السوري حيث كان الناتج من أسبوع الجولة الأولى التي شهدت ضجة إعلامية وزخماً سياسياً وحراكاً دبلوماسيًا هو «جهد المُقِل». لا أحد يمكنه التنبؤ على أن هذا المؤتمر الدولي حول سوريا سيقدم الوصفة السحرية للأزمة السورية نظراً إلى ديناميكية السياسية الدولية والمتغيرات التي تطل من الحين والآخر على المسرح الدولي وتقاطعات المصالح، كل هذه المكونات جعلت من هذا الملف أكثر تعقيداً، لا يستطيع طرفا التفاوض «الحكومة السورية والائتلاف» من الوصول إلى تسوية تتعارض مع مصالح الكرملين أو تتقاطع مع رغبات الكونغرس أو تكون خصماً من الرصيد الإسرائيلي في المنطقة أو تجاهلاً للدور الإيراني، الكل يريد تسوية» لا يموت فيها الذئب ولا تفنى الغنم». أجمل ما سمعته من وصف يُشخّص الحالة السورية هو أن ما يدور في سوريا «حرب مصالح دولية في مسرح سوري» قالها لي أحد الصحافيين الذي قطع آلاف الأميال إلى جنيف لتغطية مؤتمر «جنيف 2» وقتها كنا نتسابق داخل أروقة الأممالمتحدة من أجل الحصول على معلومات «سبق صحفي» أثناء انعقاد المفاوضات في الغرف المغلقة داخل قصر الأممالمتحدة وبعد حين بدأت أتذكر لحظات توقيع «وثيقة مؤتمر جنيف 1» حول سلام سوريا في يونيو 2012 الوثيقة التي تؤسس لمباحثات سلام بين الفرقاء في سوريا من قبل المبعوث العربي والأممي المشترك لسوريا آنذاك كوفي عنان الأمين العام قبل أن يخلفه الأخضر الإبراهيمي في الملف السوري تم إعداد وإخراج الوثيقة من قبل موسكووواشنطن وبعض المدن الأوربية بحضور ممثلة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوربي كاثرين أشتون وتمثيل خجول من الدول العربية التى أُريد لها دور الممول لهذا السيناريو لم يشارك أي سوري «حكومة أو معارضة» في صياغة هذه الوثيقة التي تؤسس لسلام دائم لسوريا ولم يُدع أي سوري لحضور مراسم التوقيع التي تمت بقصر الأممالمتحدةبجنيف. القوى الدولية رسمت الطريق وفصّلت قميص السلام السوري حسب مقاسها دون أن تأخذ في الإعتبار المقاس السوري والآن خلال المفاوضات بدأت تمارس ضغوطاً على طرفي التفاوض السوري أن يرتديا هذا القميص الضيق الذي لا يسع طموحات الشعب السوري. العقبة الأكبر التي واجهت انعقاد «مؤتمر جنيف 2» تمثلت في عدم الاتفاق على قراءة مشتركة لمضمون وثيقة مؤتمر جنيف - 1، باعتباره الأرضية التي يستند إليها المسار التفاوضي بين الفرقاء السوريين لحل الأزمة السورية بوسائل سياسية، ودون ذلك سيغرق المؤتمر في جولته الثانية التي ستستأنف في 10 من فبراير الجاري في قراءات خاصة. حيث ورد في وثيقة «جنيف - 1» تشكيل جسم حكومي انتقالي، يمكنه أن يخلق جواً حيادياً يمكن أن تجري فيه العملية الانتقالية بسهولة، وهذا يعني أن الحكومة الانتقالية ستتمتع بكامل سلطتها التنفيذية، ويمكن أن تتضمن أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومجموعات أخرى، وينبغي أن تشكّل على أساس من التوافق المتبادل». هذه الفقرة هي التي عصفت بالجولة الأولى من المفاوضات حيث تفسيرات الحيثيات لوثيقة مؤتمر «جنيف 1» حيث تفسرها المعارضة وحلفاؤها الغربيون بنقل السلطات الدستورية والعسكرية للأسد من الأسد إلى حكومة أخرى ويفسرها الوفد الحكومي المفاوض على أنها مجرد إشراك لبعض القيادات المعارضة في الحكومة الحالية لفترة انتقالية تسبق الانتخابات التي من خلالها يستطيع الشعب السوري اختيار رئيسه وتحديد مصيره. في ظل هذه التفسيرات والحيثيات الصغيرة غرق مؤتمر جنيف وغرقت الجولة الأولى من المفاوضات في نهر من التفاصيل مما تسبب في غياب التفاهمات المشتركة بين وفدي التفاوض، ولكن من المهم للدول الراعية فعلياًً لهذا الحوار «أمريكاوروسيا» هو أن ينعقد المؤتمر دون أية ضمانات تتعلق بنجاحه في تقديم حل مقبول من قبل جميع الأطراف طالما أن طرفي المعادلة الدولية حققا بعض المصالح الذاتية. ما حصلت عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية من مكاسب قبيل انعقاد مؤتمر «جنيف 2» بتدمير للترسانة الكيمائية السورية وفرملة الطموحات النووية الإيرانية جعلت من واشنطن تراجع سياستها عن الضربة العسكرية ضد سوريا، لأن اتفاقية «جنيف النووية» بين الغرب وطهران ضمنت بصورة أو بأخرى أمن إسرائيل من خلال تقليم أظافر النووي الإيراني من خلال اتفاقية جنيف التي وقعت في أكتوبر الماضي التي نصت على تخفيض عملية تخصيب اليورانيوم الإيراني بنسبة لا تقل عن «5%» وإغلاق محطة أراك النووية وبالمقابل حصلت موسكو على تعهدات من واشنطن بعدم استخدام الآلة العسكرية ضد الأسد، واقتضى ذلك تراجعا أمريكيا خجولاً لرحيل الأسد وربما بقاءه إلى حين انعقاد انتخابات رئاسية قادمة ومشاركته في الحكومة الانتقالية المرتقبة في حال الوصول إلى تسوية سياسية.. إذاً، ثمة تغيّر ناعم قد حدث في المقاربة الأميركية والسبب هو أن أمريكا حققت شيئاً لا يستهان به من مصالح. ولكن ماذا عن روسيا، استطاعت موسكو من خلال الملف السوري تجديد دماء دبلوماسيتها واستعادة قدرتها الدولية ونديتها المنتزعة منذ فترة أمام القوى الأمريكية التي استفردت بالعالم ردهاً من الزمن. وما يُمكن ترجيحه اليوم هو أن الأمر لا يرتبط بسوريا، بل بالجيوبوليتيك الدولي عامة. وهل هذه صفقة سياسية؟ الأمر ليس كذلك، بل هو نوع من التفاهمات العامة، التي تفرضها التحديات المشتركة. بهذا المعنى تصبح «جنيف 2» هو انتقال بالصراع من مستوى القتال الميداني إلى المسرح السياسي الدولي الذي يفترض أن يؤدي بالنهاية إلى منتصر ومهزوم.. منتصر سيكتب التاريخ في حال نجح في فرض شروطه، ومنهزم سيقبل بالحد الأدنى من الخسائر وبنوع من جبر الخاطر ورد الاعتبار.. ولا مكان لمعادلة لا غالب فيها ولا مغلوب. وعليه، فإن المطلوب هو وضع أسس واضحة ومحددة للمفاوضات، تنهض على منظور انتقالي سياسي حقيقي. في غياب التوافق الإقليمي على أجندته التى لا تزال غامضة.