الجمهورية الثانية وغياب الإستراتيجيات خصوصاً تجاه قضايا مفصلية على رأسها الاقتصاد وأبيي ووجود الحركة الشعبية في الشمال.. حديث ظلت تتداوله المجالس وعلى كل الأصعدة.. الإنتباهة جلست إلى الخبير الإستراتيجي رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية الدكتور علي عيسى وحاصرته بالأسئلة التي تدور في كل الأذهان، والمخاوف التي تعتري الجميع بعد انفصال الجنوب وتأثيره الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي فماذا قال: ما هي الأسباب التي أدت إلى تأزّم مناطق التماس بين الشمال والجنوب؟ أعتقد أن البداية المنطقية لنقاش إستراتيجي يجب أن يبدأ باتفاقية السلام الشامل والتي عند النظر إليها ابتداء من مشاكوس نجده أسس لثغرات إستراتيجية هائلة بالنسبة للسلام الذي تم بين الجنوب والشمال باعتبار أن القضايا التي ناقشها سواء كانت خاصة بالفترة الانتقالية أو بالحكم أو تقرير المصير أوعلاقة الدين بالدولة نجد أن فيها تنازلاً واضحًا جداً من المفاوض الحكومي لصالح الحركة الشعبية، وعند الانتقال للترتيبات الأمنية 2004م نجد أن بها ثغرات إستراتيجية خطيرة جداً لأنها أسست لوجود جيشين داخل دولة واحدة بالإضافة إلى ما سُمي بالقوات المشتركة والتي نص الاتفاق أن تكون موجودة بالمناطق الحساسة سواء كان أبيي أو النيل الأزرق أو جنوب كردفان، وذلك حدث أيضاً عند تقسيم السلطة التي مكنت للجنوبيين نسبة لم يتوقعوها وبذلك أسست لمحاصصة في السودان لم تكن موجودة مما انسحب على أن تحكم الحركة الشعبية كل الجنوب وتشارك في حكم الشمال، ومامارسته الحركة من ضجيج وتضاد حتى تصرِف الحكومة إلى أشياء انصرافية لتنفيذ إستراتيجيتها بصورة متكاملة عن خططها وما تدبره لها وقد نجحت في ذلك تماماً وأيضاً فيما يتعلق بتقسيم الثروة فإن القسمة فيها كانت ضيزى لأنه ليس من المعقول أن يُقسم النفط مناصفة وأن يكون هناك نظام صيرفة وعملة خاصة بالجنوب في إطار دولة واحدة وهذا كان مؤشرًا للانفصال واضحًا جداً، والطامة الكبرى بالنسبة للاتفاقيات الثلاث سواء المتعلقة بأبيي أو جنوب كردفان والنيل الأزرق أسست سلطانًا وكيانًا لدولة الجنوب حتى بعد انفصاله وهم يريدون إيصال المشورة الشعبية لسقف الحكم الذاتي ولانفصال هذه المناطق، وبالتالي فإن قضايا مناطق التماس أفرزتها اتفاقية السلام الشامل بما عُرف عنها من ظلم واضح لدولة شمال السودان وستظل خميرة عكننة لدولة جنوب السودان وشماله، وعلى الرغم من وضوحها من خلال حدود 56م إلا أن الحركة الشعبية تُصر أن يكون لها وجود في مناطق محددة سواء أكانت التجارية أم جزءًا من منطقة أبيي أم حدود جنوب دارفور، وعندما فشل الطرفان في علاجها توصلا إلى مايسمى بالحدود المرنة التي تسمح بتداخل الطرفين والذي ترفضه أي دولة ذات سيادة وهو كان خطأ الطرفين وهي لن تقوم بين دولتين تستفحل العداوة بينهما. ما الذي يجب على الحكومة أن تقوم به لبسط نفوذها على هذه المناطق الحدودية؟ من مهام القوات المسلحة الدفاع عن حدود الدولة وعلى الحكومة أن تعزِّز من وجود هذه القوات بهذه المناطق لردع أي تحرك للحركة الشعبية إذا سولت لهم أنفسهم أن يدخلوا الحدود ويعيثوا فيها الفساد وعليها ردع هذه القوات المعتدية وبهذا يتم التعزيز الأمني فيها إضافة للتعزيز المجتمعي بتوعية القبائل الموجودة على هذه الحدود وإحداث التنمية لها حتى لا يحدث لها اختراق من قبل الجواسيس والعملاء، فتعزيز الوجود الأمني والتوعوي والعسكري من الوسائل المهمة لضمان الحدود التي تفصل الدولتين في ذاك الوقت. الحل الأمني لقضايا السودان الشائكة أفرز الواقع الماثل، كيف ترى قضية دارفور وفق هذا المنظور؟ هذا صحيح، فما عُرف بإستراتيجية دارفور الجديدة والتي إذا تم التركيز عليها بنقاطها الخمس المتعلقة بالتأمين والتوطين والتنمية إضافة للتصالح والتفاوض فإذا سلط الإعلام عليها الضوء وتوضيح التطبيق الذي يحدث في أرض الواقع الآن فلن يكون فيها إشكال وهذا هو الإطار الذي بموجبه تُحل قضية دارفور، أما فيما يتعلق بالحركات المتمردة فليس لديهم أهداف محددة ليقاتلوا من أجلها، والحكومة بما قدمته من طرح وما تم في إستراتيجية دارفور الجديدة قفلت الباب أمام أي مزايدات في قضية دارفور وهذا يؤكد أن هذه الحركات تقاتل من أجل أجندة خاصة بهم أو بدفع من جهات خارجية تعادي السودان لذلك أعتقد أن المسار الذي اتخذته الحكومة مؤخراً كان خارطة طريق لحل القضية. القضايا الإستراتيجية وما يكتنفها من مفاجآت كما حدث في الانفصال والذي حدث منذ منذ توقيع اتفاقية السلام؟ هذا صحيح فبمجرد أن وُقع بروتوكول مشاكوس 2002م تحدث عن تقرير المصير بصورة واضحة حتى الوحدة الجاذبة وُضعت عَرَضاً ومنذ ذلك الوقت وبيوتات الخبرة والبحوث الإستراتيجية في الغرب عملت لتصل لهذا الانفصال في الوقت المناسب؛ بينما كانت الحكومة في غفلة ومنشغلة بقضايا الشرق والغرب ودارفور إضافة لقضايا القوى السياسية وما أُثير من المحكمة الجنائية جعلت الحكومة لا تنتبه إضافة للتشاكس الذي كان من قبل الشريك آنذاك، ولتُفاجأ الحكومة بعد ذلك بأن الجنوب في طريقه للانفصال وكانت الصدمة قوية جداً وقد وضح ذلك بما حدث من اضطراب في أجهزة الحكومة المختلفة. مازالت قضية أبيي باقية غائبة، كيف تقرأ ما حدث مؤخراً بانسحاب القوات المسلحة والجيش الشعبي وإبدالهم بقوات إثيوبية؟ ما تم أعتقد أنه تأزيم للمتأزم، فبدلاً أن يكون هناك علاج واضح للطرف الذي ظلم في اتفاق أبيي والذي اُعتُبرت فيه أنها مشيخة خاصة بدينكا نقوك مما أفقد المسيرية وجودهم على الرغم من أن التأريخ يؤكد أن دينكا نقوك هم الوافدون من شمال بحر الغزال وتم توطينهم في أبيي لحل مشكلة المشيخات ولكن قُدر أن ينعكس هذا الشيء وبطبيعة المسيرية المتنقلة بحكم امتهانهم للرعي لا تجعلهم يستقرون في منطقة واحدة بل يتنقلون بين جنوب بحر الغزال وأبيي، ومن هنا أتت ثغرة تمكين دينكا نقوك أن يكونوا مواطنين أصيلين بالمنطقة بينما الرعاة المتجولون لن تكون لهم نسبة في التصويت وقد تعززت تماماً بما حدث في محكمة لاهاي وبالتالي خرجت القبائل العربية الموجودة في أبيي من مولدها دون حمص كما يُقال، كما أن إصرار الحركة الشعبية على عدم تمكينهم من الاستفتاء والتصويت والاستمتاع بحقهم في التصويت ألقت بظلالها على واقع هذه القبائل، والحل لم يكن وجود القوات الإثيوبية لفصل الطرفين تحت البند السابع بل كان الحل الأفضل أن تُحل قضية المسيرية المتجولين في أبيي بإعطاء حق التصويت أو الاستقرار أو تقسيم المنطقة إدارياً بين القبيلتين الموجودتين، وقرار الحكومة بفرض سيطرتها على أبيي كان من أنجع القرارات ووجد السند من القوات المسلحة والمواطنين وأظهر أن الحكومة قابضة على زمام المبادرة، وموقفها الأخير بعد أن كانت في موقع الهجوم يجعلها أقل درجة من درجات الدفاع وأصبحت محايدة لا حول لها ولا قوة تنظر لما يجري في أبيي بعين الريب وليس هناك ما يضمن أن تلتزم القوات الإثيوبية بالحيادية وهذه تنازلات لا ينبغي للحكومة أن تقوم بها وتسحب قواتها من منطقة هي أصلاً شمالية. جنوب كردفان والنيل الأزرق قنابل موقوتة في طريق الجمهورية الثانية تركتها الحركة الشعبية عبر قطاعها في الشمال .. هل من حلول؟ ما حدث في أبيي يحدث بجنوب كردفان، فمنحني التنازل من الحكومة ازداد لصالح الشعبية بما يسمى بالاتفاقية الإطارية التي عُقدت مؤخراً بأديس أبابا وما تم فيه بتفويضها لقطاعها بالشمال بتولي القضايا العالقة بين دولة الجنوب والشمال وهي مسألة خطيرة جداً مكنت قطاع الشمال أن يوجد بمؤسسة حزبية وقوة سياسية مؤثرة تتفاوض بالإنابة عن الشعبية وهو قياساً بالأحزاب التقليدية الموجودة يُعتبر الأقوى، والخطر يكمن إذا تم تطوير هذا الاتفاق لشراكة سياسية بين المؤتمر الوطني وقطاع الشمال بالشعبية، وقد تحدث عرمان قبلاً عن إصلاح دستوري والذي يعني أن مشروع الشعبية العلماني الذي فشلت في تطبيقه بالجنوب سينتقل للشمال لتعكير صفوه، وجنوب كردفان كانت ضحية لما تم خلال الفترة الانتقالية ودفع أبنائها الثمن الآن وأصبح الإقليم لا يجد نفسه في المؤتمر الوطني ليتمكن أو مع الحركة الشعبية التي همشت أبناء ج كردفان وبالتالي الواقع الآن مُزري جداً لأنها أصبحت محمية تابعة للحركة الشعبية وتقطعت أوصالها ولو قُدر أن تقوم القوات المسلحة بعملها كان أفضل من الحل السياسي وهو ما انتبه له الرئيس مؤخراً بإطلاق يدها على مناطق جنوب كردفان لأن القوة في مثل هذه التداعيات تكون أصدق وتحل القضية. ما هي رؤيتك لاضطراب الخطاب السياسي في النظام الحاكم؟ نعم من الملاحظ أن هناك اضطرابًا واضحًا في الخطاب السياسي للمؤتمر الوطني وكثيراً ما نجد تصريحًا وآخر يناقضه وهذه المسألة لا يمكن التعبير عنها بتبادل الأدوار والذي يقف في محطة الحديث فقط وليس الفعل وهي تعكس تباين المواقف في المؤتمر الوطني نفسه والذي لن يستمر كثيراً بعد الانفصال وقد تكون هناك عملية جراحية دقيقة بموجبها يتوحد الخطاب السياسي الوطني وفقاً للتنظيم. إقفال الحكومة لباب قيام حكومة قومية بعد تأكيد المعارضة على عدم مشروعية النظام بعد الانفصال؟ المؤتمر الوطني تحدث قبلاً عن حكومة موسعة، والأحزاب تطالب بحكومة قومية تعبِّر عن الرؤية الخاصة بالقوى الحزبية الأخرى وهي ضد الرؤية الخاصة بالمؤتمر الوطني الذي حاز على الأغلبية البرلمانية، ولن تقوم حكومة قومية لأن الوطني هو الذي حمل البلد في ظل أزمات خانقة وعزلة دولية والآن يسير بها في اتجاه محدد وبرامجه واضحة جداً وبالتالي المعارضة لن تجعله يتنازل عن مكتسباته هذه ويضحي بها ليدخل الناس في حكومة قومية متشاكسة قد تُقعد بالمكتسبات الهائلة التي تحققت في الفترات السابقة. إذن كيف ترى مستقبل العلاقة بين الحكومة والمعارضة بعد انفصال الجنوب؟ حدوث الانفصال لا يعني أن الحكومة سقطت أو أن الشرعية الانتخابية انتهت، فدولة الشمال الآن تُعِد لدستور جديد به متطلبات الدولة الجديدة والتي يمكن أن تُعالج في ظل الحكومة الموسعة والتي لن تستقيم الا بوجود المعارضة، وما تم الآن بين الإمام الصادق المهدي والحوار الجاري مع الميرغني قد يُفضي إلى حكومة ذات قاعدة عريضة يُستجاب لها.. ولكن الأحزاب لا يشكلها الأمة أو الاتحادي؟ الأحزاب الموجودة في الساحة الآن لافتات أكثر منها كيانات بعينها ولا يُعول عليها ويمكنها أن تركب من أي محطة من المحطات وتساهم بأي صورة وليس لها تأثير كالأحزاب التقليدية. هل بخروج نسبة الجنوب من البترول سيتأثر اقتصاد الشمال؟ اقتصاد الشمال لن يهتز بالانفصال كما يرى المحللون، ووزير التعدين أكد أن الذهب السطحي يمكن أن يعوِّض مفقود البترول وبعد تخيير السيد الرئيس للحركة الشعبية فهي لن تستطيع أن توقف البترول أو أن تُنشيء أنابيب لتصدير البترول عبر كينيا في رمشة عين لحاجتها إلى فترة انتقالية قد تمتد إلى سنوات كثيرة، والحركة ستوافق على تصدير البترول عبر السودان مع عملها على إنشاء أنابيب للتصدير عبر كينيا مستقبلاً مما يؤمن دخل الشمال الثابت حتى يتم إيجاد آبار جديدة لتعويض الفاقد وهي الترتيبات التي من أجلها زار البشير الصين. مستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب تحت ظل القضايا العالقة؟ أعتقد أن كل المؤشرات تشير إلى ضبابية هذه العلاقة واستمرارها لوجود كمية من المنشقين في الجنوب من الجنرالات والقبائل المتمردة التي تجعل الجنوب في دوامة من عدم الاستقرار، مما قد يجعل الشمال مُستقطبًا لمتمردي الجنوب والعكس، وبالتالي من الصعب أن تستقر هذه العلاقة على وضع محدد. هل ما اتخذته الحكومة بإعطاء فترة تسعة أشهر بعد الانفصال لتوفيق الأوضاع خطوة صحيحة؟ هذا نوع من التراجع تحت الضغوط العالمية لأن الإدارة الأمريكية صرحت تكراراً بأن لا يتعرض جنوبي بالشمال لأي أذى لهذا تحدثت عن الأشهر التسعة والتي هي قابلة للتمديد والتطور قد يرتبط بعوامل خارجية أكثر منها داخلية متعلقة بالمواطنين وقد صرح البشير بأن الإدارة الأمريكية لن تطبع مع السودان على الإطلاق بعد الوعود التي أجفلت عنها كثيراً..