تجري الاستعدادات هذه الايام على قدم وساق لعقد مؤتمر عن التعليم العام والعالي في السودان؛ و نود بهذه المناسبة تقديم حلقات عن التعليم في دار الريح أو محلية بارا الكبرى من وجهة نظر توثيقية مع التركيز على جوانب العملية وعواملها المختلفة وهي تحديداً البيئة المدرسية، والمنهج والمعلم والطالب ومخرجات التعليم وصولاً لعقد مقاربة ومقارنة بين واقع التعليم في الماضي والحاضر من خلال عرض نماذج من المدارس التي كان لها دور ريادي في مجال التعليم في المنطقة المذكورة. «خورجادين» اسم له رمزية خاصة عند الحديث عن التعليم في دار الريح أو بالأحرى في محلية بارا الكبرى.. فهذه المنطقة هي قرية صغيرة تقع بالقرب من واحة العاديك في إدارية دميرة حالياً. ففي العام 1949 افتتحت أول مدرسة حكومية باسم مدرسة دار حامد الأولية خارج مدينة بارا في تلك المنطقة فوق ربوة تطل على مشرع العاديك.. كانت تلك هي البداية الرسمية للتعليم النظامي في قرى مجلس ريفي دار حامد، وإن سبقتها مدرسة صغرى في دميرة بإدارة الشيخ الوسيلة ويعاونه شيخنا أحمد ود الأمين ومربي الأجيال عثمان الرفاعي، وقامت تلك المدرسة إلى جانب الخلوة التي أنشأها الشيخان عبده والتجاني عمر قش على نفقتهما.. كما كانت هنالك مدرسة صغرى في قرية المرة افتتحت عام 1947، و كانت المدارس الصغرى معروفة في ذاك العهد، وهي كانت تؤهل الطلاب للمرحلة الأولية، فالدراسة فيها ثلاث سنوات يخضعون بعدها لامتحان موحَّد يؤهلهم للدخول إلى الصف الثالث في المدارس الأولية. وكان أول ناظر لمدرسة خور جادين هو المربي الكبير والمعلم القدير الأمدرماني الأستاذ عوض عبد الماجد، وكان من أشهر معلميها الأستاذ الشريف الركابي. كما كانت خلاوي القرآن تنتشر في كثير من القرى منها مسيد الفكي الناير في حلة الفكي، ومسيد الشيخ محمد ود بيوضة في نكور؛ ومسيد ود كدام في أم حصحاص؛ ومسيد مولانا الشريف عبد المنعم في أم سعدون الشريف؛ وفي دار العريفية كان مسيد الحاج اللين، وخلاوي الشيخ مركز الدين في الشوّق والشيخ أحمد ود أقروب في الرهد ومسيد الشيخ أبّا عيسى في البشيري وكان لمنطقة الطويل باع طويل في نشر القرآن.. أما خرسي فهذه مدرسة علمية قائمة بذاتها يرجع إليها الفضل الكبير في نشر التصوف والفقه والقرآن والفتوى. كل هذه الأماكن قامت بجهد كبير في تعليم الناس وتبصيرهم بأمور دينهم وكانت في ذات الوقت بمثابة مأوى لكثير من طلاب العلم والدارسين يؤمها الشيوخ من كافة بقاع السودان خاصة من دارفور وشرق كردفان من دار الجوامعة حتى اشتهر منهم نفر كريم مثل الشيخ عمر مرو والشيخ آدم البرقاوي والشيخ المسلمي من شرق النيل والفكي آدم ود البشير وشيخنا موسى عبد المجيد الذي أصبح إماماً لمسجد الأبيض الكبير فيما بعد. وقد جذبت دار الريح عدداً من العلماء الشناقيط الذين أسهموا بقدر كبير في نشر العلم في تلك البقاع؛ الأمر الذي مهد الطريق لتقبل الناس للتعليم والدراسة النظامية في ذلك الوقت المبكر. كانت خور جادين هي رائدة التعليم في دار حامد وتعاقب على تلك المدرسة العريقة عدد من كبار رجالات التعليم في ذلك الوقت منهم الأستاذ عوض الحلو من أم درمان، والشيخ هاشم إسماعيل من دنقلا والفاتح أحمد خالد من بارا والشيخ عبد الرحيم البشير رحمهم الله جميعاً وجزاهم الله بخير ما يجزي به شيخ عن تلاميذه. هذا، بالإضافة إلى المعلمين الأفذاذ الذين لم يبخلوا على تلاميذهم بشيء من العلم والتربية الصالحة وقدموا نموذجاً حضارياًَ وقدوة حسنة للمواطنين والطلاب بكل تجرد ونكران ذات وإخلاص في العمل. إن مدرسة كانت تحت إدارة هؤلاء العظماء لا شك أنها قد تخرج فيها رجال لا يقلّون عظمة عن معلميهم منهم الأستاذ أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني حالياً؛ وزعماء القبائل أمثال الأمير العبيد محمد تمساح والأمير الحاج جابر جمعة سهل وصديق التجاني عمر قش وعيسى التجاني عمر قش. ومنهم العُمَد بابكر العالم وبكر جودة وبركات عثمان؛ ومن القادة العسكريين الكبار الذين تخرجوا في خور جادين اللواء طيار الركابي مكي أحمد حامد قائد سلاح الطيران سابقاً واللواء كنني حمدتو قائد سلاح البحرية ومنهم أستاذة الجامعات الدكتور الغالي الحاج والدكتور الشيخ جمعة سهل والطبيب المشهور الدكتور عمر زايد بركة والشاعر عثمان خالد والفنان عبد الرحمن عبد الله؛ وغيرهم كثر من المعلمين الذين حملوا لواء التعليم في شمال كردفان ونشروا المعرفة في القرى والحضر وآخرون غيرهم في شتى المجالات المدنية والعسكرية. وفي العام 1953 افتتحت مدرسة المقنص الأولية وما إن حل مطلع العقد السادس من القرن الماضي حتى كانت جميع القرى الكبيرة قد وصلها قطار التعليم وأنشئت مدارس عديدة في المزروب و أم كريدم وطيبة وأم سعدون و غيرها وانتقلت مدرسة خورجادين إلى دميرة في العام 1962 وكنا أول دفعة تلتحق بالمدرسة في مقرها الجديد. وتوسع التعليم بعدها وانتشر في البوادي والحضر. كانت تلك المدارس العريقة بمثابة محاضن تخرِّج الرجال عن طريق تقديم القدوة الحسنة من قبل المعلمين الذين كانوا يأتون من كل البقاع حاملين تجاربهم التربوية الناجحة ولهذا السبب كانت مخرجات التعليم ممتازة بكل المعايير.. ولذلك حق لأستاذنا سليمان جمعة سهل وهو أحد خريجي خورجادين أن يطلق عليها «كلية خور جادين الأولية».