عندما اندلعت ثورة أكتوبر «1964م» التي أطاحت فيها جماهير الشعب وطلائعها والمتعاطفون معها من قواتها المسلحة بالحكم العسكري الأول في السودان بعد الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني، كان د. الترابي قد بلغ من العمر 32 سنة، وكان قد عاد لتوه قادماً من فرنسا بعد أن حصل على درجة الدكتوراة في مبادئ القانون الدستوري ليواصل عمله في كلية القانون بجامعة الخرطوم، بينما كان السيد الصادق المهدي قد بلغ من العمر حينها حوالي الثلاثين سنة، وكان قد عاد أيضاً قادماً من بريطانيا بعد حصوله على درجة الماجستير في علوم الاقتصاد. وفي تلك المرحلة من عمريهما لعب كلاهما دوراً مؤثراً في انحياز النخبة المثقفة والقيادات التأريخية للقوى الوطنية السياسية لتلك الثورة الشعبية والجماهيرية التي انفجرت في أوساط الطلبة والأساتذة بجامعة الخرطوم، ثم امتدت منطلقة في كل الأرجاء والأنحاء بالعاصمة المثلثة وغيرها من المدن والحواضر الأخرى على امتداد البلاد حتى تكللت بالانتصار والانتقال بالوضع الوطني من الحكم العسكري الديكتاتوري والاستبدادي إلى حكم ديمقراطي يقوم على التعبير عن الإرادة الحرة لجماهير الشعب. وبناء على هذا ومع الأخذ في الاعتبار أن القيادات الوطنية التي برزت أثناء ثورة أكتوبر «1964م» وما جرى بعدها، قد ضمت أيضاً أسماء عديدة لشخصيات أخرى من ذوي القامات السامية والسامقة التي رحل بعضها عن الدنيا الفانية إلى دار الخلود في الآخرة الباقية، بينما ما زال هناك آخرون ظلوا يناضلون أو استسلموا واختفوا عن الأنظار، فإن السؤال الذي يطرح ويفرض نفسه في الوقت الحالي ل (الوثبة) المزمعة و(المفاجأة) المنتظرة على النحو المطروح والمقترح دون تفصيل وتفعيل من جانب حزب المؤتمر الوطني الحاكم هو، هل سينجح من تبقى من الجيل الأكتوبري وأبرزهم كل من المهدي والترابي في التصدي لهذا التحدي والاستجابة له بمساهمة فاعلة يتم القيام بها عبر دراسة متعمقة وخطة موضوعة بدقة محكمة يكون من شأنها أن توقد الجذوة في الوثبة وتمضي بها على ضوء الشعلة المتقدة حتى تحقق هدفها وتصل بها إلى ما تسعى له وتعمل من أجله في سبيل تمهيد الطريق لتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي وجذري وجوهري ومحوري، وليس فقط على نحو شكلي أو على النحو غير المجدي الذي ربما يكون هو الذي يسعى له المؤتمر الوطني ويأمل في الانشغال به من قبل القوى الوطنية الأخرى المعارضة والمناهضة له ولكن دون جدوى، إلى أن يأتي الوقت المحدد لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في مثل هذه الحالة، أو حتى ربما إلى ما هو أسوأ منها، ونبقى وكأننا لا رحنا ولا جئنا.. وتعود ريمة إلى قديمها، ويعود غيرها ربما فقط بخفي حنين راضين من الغنيمة بالإياب إلى اليباب والحال الضباب والعتمة المظلمة والأوضاع الظالمة الراهنة. وبناء على مثل هذه الإشارة للتحدي الحالي للجيل الأكتوبري وتمثيله الرمزي من جانب المهدي والترابي في سعيهما للاستفادة من «الوثبة» المزمعة و«المفاجأة» المنتظرة من جانب حزب المؤتمر الوطني الحاكم في سبيل الدفع بها نحو تحول ديمقراطي حقيقي ومكتمل وكامل الدسم، وكذلك في سياق المقارنة بين الأسلوب السياسي لكل من المهدي والترابي باعتبار أنهما الممثلان البارزان والمستمران في النضال على نحو ملموس ومحسوس حتى الآن مقارنة بغيرهما ممن بقي من الشخصيات الوطنية الأخرى التي كانت بارزة في الجيل الأكتوبري، فإنه تجدر العودة لما أشرنا إليه أمس وأمس الأول مما أقدم عليه الترابي في معرض الاستفادة من المصالحة الوطنية السابقة التي أنجزها المهدي مع نظام الحكم العسكري للرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري عام «1977م» والفترة الممتدة منذ ذلك الحين وحتى الإطاحة بذلك النظام في انتفاضة شعبية ظافرة انحازت لها وتلاحمت معها القاعدة والقيادة العامة للقوات المسلحة. ومواصلة لذلك وبالعودة للإفادة المهمة التي أدلى بها الترابي لمجلة «الأمة» الإسلامية القطرية وتم نشرها في كتاب ضمن حوارات مع شخصيات إسلامية أخرى عام «1985م» فإنه تجدر الإشارة إلى أن الترابي الذي أشار لوجود (نسمة حرية) في خطاب (الوثبة) المثير الذي أدلى به الرئيس البشير في لقاء قاعة الصداقة الأخير، كان قد ذكر في ذلك الحوار المشار إليه الذي أدلى به في ديسمبر «1984م» في أواخر عهد حكم الرئيس نميري: إننا سنحاول إن شاء الله وبالرغم من التحديات المحيطة بالأنموذج السوداني الحالي، وبالرغم من أن هذا المجتمع الذي نقيم فيه الدين اليوم بأتم وجوهه هو مجتمع معقد ومركب ومتباين له حدود واسعة وعلاقات واسعة بالمجتمعات الأخرى تولد كثافة مما تموج به الحياة السودانية في تلك السعة.. سنحاول بالرغم من كل ذلك واستعانة بالله تعالى أن نوسع الحرية لأن التزام الإسلام ذاته يهيئ لنا قدراً من الانضباط ومن الاستقرار الذي يحول دون الفوضى التي يمكن أن تتحقق من قضية الحرية.. وكذلك لأننا بالأمس كنا نخاف إن فتحنا الباب من أن تستقطب البلاد والأحزاب ويتشتت ولاؤها للخارج وتتمزق أشلاء، ويضيع الكيان الذي نعده للمستقبل، لكن الآن وبعد هذا الانفعال الواسع بالدين اكتشفنا وحدة جديدة. وهذه التحديات نفسها تضطرنا إلى أن نضم الصف الوطني الإسلامي، ويمكن ان يُتاح لنا في هذا المجال أن نتسع في الحرية السياسية بقدر كبير إن شاء الله.