كانت تركيا دولة إمبراطورية استمرت زهاء الخمسة قرون تسيطر على مساحات شاسعة استوعبت داخل أحشائها كثيراً من الأمم والشعوب والأديان والثقافات ولكن بعد هذا العمر المديد لها كإمبراطورية وبحكم حركة التاريخ وأن الإمبراطوريات مثل البشر تبدأ بمرحلة الشباب والعنفوان ثم الهرم والشيخوخة فلزمت تركيا سرير المرض وأصبحت رجل أوربا المريض، وهذا التوصيف أطلقه عليها ساسة الغرب نهايات القرن التاسع عشر أي نسبوها جغرافياً إلى أوروبا حينما كانت إمبراطورية لكن بعد سقوط الإمبراطورية تراجعت مساحتها الجغرافية وأصبحت بعد اتفاقية سايكس بيكو على الأراضي الآسيوية شريطا صغيرا يمتد داخل أوربا وحينما قاد الجنرال أتاتورك انقلابه اتجه إلى الغرب متبنياً فكراً ونهجاً علمانياً خالقاً قطيعة مع الدين الإسلامي وأسس لهذا الدور عبر المؤسسة العسكرية وقيادات من جنرالات رغم أن الضمير التركي ظل مشدوداً نحو عقيدته وهذا ما أكدته الانتخابات لثلاث دورات على التوالي فاز بها حزب العدالة ذو التوجه الإسلامي رغم أن أشواق القادة الأتراك اللحاق والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وسوقه الكبير وكلمته الموحدة مجموعة اليورو أي أوربا المتحدة كما قال بذلك الرئيس ديجول من «القوفاز إلى المحيط»، لكن حاضرة الاتحاد الأوروبي بروكسل ظلت ترفض كل طلبات الأتراك بكثير من الحجج رغم المجهود الذي قدمته تركيا في كل مواجهات حلف الأطلسي في حروبه الباردة والساخنة وبحكم موقع تركيا والقواعد الغربية على أراضيها وسواحلها، لكن فيما يبدو أن الدور التركي تراجع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي رغم أن هذا السقوط وتفكك جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً خاصاً الجزء الجنوبي ذوالتوجه الإسلامي يملي على تركيا دوراً إقليمياً قائداً سياسياً ومذهبياً، وذلك بسبب التحرك الإيراني والوجود الغربي في أفغانستان والعراق. فحقائق الجغرافية والتاريخ تقول إن هناك غلبة واضحة للثقافة التركية واللغة التركية زائداً انتشار الإسلام السني يمكن أن يشكل حجر الزاوية في أحداث تلك المنطقة سيما وأن إسرائيل اتجهت إلى دول آسيا الوسطى أي جمهوريات الاتحاد السوفيتي الإسلامية سابقاً عارضة خدماتها ومعاملاتها. فتركيا كما قال السيد دميريل يمكن أن يكون هنالك عالم تركي من البحرين بحر الأدرياتيك إلى حدود الصين، ولقد ذكر رئيس أوزبكستان في إحدى زياراته لأنقرة أن بلاده سوف تسير قدماً على الطريق التركي وذات الشيء ذكره رئيس أذربيجان ويبدو أن القيادة التركية ذات التوجه الإسلامي المستنير المتصالحة مع دولة المواطنة والتعددية السياسية قد انفتح تجاه الدول العربية والافريقية ولعبت القيادة التركية دوراً مميزاً تجاه القضية الفلسطينية تحديداً أهالي غزة وهذا الموقف متقدم على كثير من الدول العربية سوى التي تدعي الاعتدال أو المواجهة، فتركيا بحكم التاريخ مشدودة تجاه المنطقة العربية ثقافياً ومذهبياً بل تجاوزت الدائرة العربية وولجت إلى القارة السمراء بما فيها الصومال الدولة المتشظية، وهذا يدل على أن القيادة السياسية التركية تجاوزت عقيدة جنرالات الجيش وتعاملت مع حقائق الأشياء بقلب مفتوح وصادق وهو ما لمسناه من الموقف التركي من الانقلاب المصري والعنف المفرط في فض اعتصامي رابعة والنهضة، فكان موقف القيادة التركية مما يحدث في مصر من قادة الانقلاب موقفاً متقدماً على كثير من الدول العربية التي لاذت بالصمت الذلول تجاه فظائع الجيش والشرطة المصرية وفلول عهد مبارك، ويبدو أن القيادة التركية بهذا الموقف المبدئي من قضية الديمقراطية والشرعية رغم مصالحها في مصر قد أرسلت عدة رسائل بهذا الموقف سيما للعسكر الذين وطنوا أنفسهم سابقاً في تركيا باعتبارهم كهنة المعبد وسدنة النظام العلماني، ولقد صدق وزير خارجية بريطانيا نهاية القرن التاسع عشر السيد سالزبوري إذ قال أمام فسولان العسكر «إذا أطلقنا العنان لآراء العسكريين سوف يقولون لنا دعونا نحتل القمر من أجل حمايتكم من المريخ». السؤال هنا هل أمام هذا الحراك التركي ستقف إيران موقف المتفرج باعتبارها قوة إقليمية لها مشروع ذو صبغة ثورية ولها وجود فاعل في شرق المتوسط في سوريا ولبنان واليمن مع حزب الله رغم محاولات الغرب كبح جماح إيران والموقف الخليجي من القوة الإيرانية المتصاعدة لشل قدرة إيران، ورغم ذلك تتحرك إيران وربما تزداد حركة إيران بحيوية أكبر إذ تجاوزت موضوع الملف النووي ودخلت نادي الكبار سوف تكون الدولة القائدة بحكم القوة وهذا أمر يستوجب تغيير إستراتيجيات كبرى في المنطقة تشمل روسياوتركياوالصين والهند وباكستان وحتى إسرائيل والسعودية، ومن خلفها الخليج وأمامهم الولاياتالمتحدة لكن يبدو أن أنقرة أدركت بأنها لا يمكن أن تهرب من حقائق الجغرافية وتصبح حاضرة في تشكيل كثير من قضايا المنطقة في عالم ما بعد الحرب الباردة في منطقة آسيا الوسطى والشرق الأوسط وتسعى كي تكون جسراً للتواصل والتلاقي بين الغرب والشرق الأوسط الذي تعيش دوله واقعاً مؤلماً مثل الحال في سوريا وفلسطين ومصر، ومصر بحكم الردة التي أحدثها الانقلاب لن تتعافى قريباً فهي الآن عاجزة عن لعب أي دور إقليمي سياسي أو عسكري بحكم الأزمة التي خلقها المشير السيسي وإدخاله لمصر في بحار من الظلمات، والسؤال هو: هل يمكن لتركيا أن تلعب دوراً إقليمياً رائداً وقائداً عبر كتلة إقليمية تجمع بعض من دول آسيا الوسطى وصولاً إلى الخليج وشرق المتوسط رغم أن إيران الأقل أثراً ثقافياً ومذهبياً بجانب تركيا التي كيفت علاقاتها مع إيران، وهل يمكن للقيادة التركية الواعية بحقائق العصر والتي قدمت تجربة إسلامية في الحكم رائدة ومتجددة، هل تقود دوراً في التقارب المذهبي مع إيران الشيعية يكون مدخلاً لعلاقة سنية شيعية تتجاوز مدونات عصر الفتنة الكبرى ومقتل الحسين والدور الأموي والمرواني في الوجدان الشيعي؟! يبدو أن تركيا قادرة إذا عزمت على الفعل، والسؤال هنا: هل ستسمح روسيا وإسرائيل بهذا الدور ودول الغرب أم أن الغرب سوف يحاول احتواء تركيا بشكل ناعم أو عنيف ويسحبها بعيداً عن محيطها الجغرافي والديني حتى لا تنشأ قوة إقليمية في المنطقة بقيادة تركيا يمكن لها أن تلهب المشاعر العثمانية القديمة إلى ما في الإمبراطورية الدارسة، فما زالت أصداء وقع حوافر خيول وجنود الأتراك التي حاصرت فيينا عاصمة النمسا حاضرة في العقل الأوروبي، رغم هذا الحراك التركي هل سيجهض مشروع إيران بتسخير تركيا والدول السنية عبر جراحة دامية ومن بعد ذلك الالتفات الى القوة التركية الصاعدة، وهل ستغض روسيا الطرف عما يدور في جنوبها الجغرافي الذي يمكن له أن يدور في محور إقليمي قطبه تركيا أو العثمانيين الجدد؟ أخيراً نقول ليس أمام تركيا رغم المشكلات الداخلية وهي شيء طبيعي في دولة محكومة بنظام ديمقراطي والحريات بها مفتوحة، ليس أمام تركيا إلا الامتثال لحقائق الجغرافية واستيعاب التاريخ والثقافة والالتفات إلى هذا الجزء الحيوي من العالم الذي لفظ الإنجليز والفرنسيين وقاوم الأمريكان. فتاريخياً تشكلت تركيا من تلك الشعوب التي جعلت منها أمبراطورية لأكثر من خمسة قرون، فهل تنهض تركيا بهذا المنطق عبر مشروع إقليمي كبير ومتسامح وتصبح جسراً للتواصل بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط ناشرة ألوية الإسلام المتسامح المستنير المتسامية فوق المذاهب مع الجارة إيران أم ستعطي تركيا ظهرها لحقائق الجغرافية والتاريخ وتخشى من القوة الكونية الكبرى التي لا تسمح بتجاوز إلا عبرها وبموافقتها، وحينها تصبح تركيا كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.