لا يبدو أن الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثابو مبيكي قد ملّ بالفعل واشتكى من طول الطريق الذي تسير عليه مفاوضات القضايا العالقة بين السودان وجمهورية جنوب السودان، وقد انطلقت عملية التفاوض قبل ميلاد دولة جنوب السودان، ولم تُحسم بعد، وكلما التأم جرحٌ تجدد جرحٌ آخر بالخلافات العميقة والتطورات المتسارعة التي لا تهدأ إلا لتستأنف تأزُّمها من جديد. بدأ أمبيكي من جديد ماراثون تحركاته ما بين الخرطوم وأديس أبابا وجوبا في إطار اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى التي تضم رؤساء سابقين في دول إفريقية مثل الرئيس النيجيري الأسبق عبد السلام أبوبكر، وحاول أمبيكي طرح قضايا عفى عنها الزمن وتجاوزتها الأحداث، فقضية الجنسية المزدوجة والعملة، التي طرحها على الرئيس البشير أول من أمس بالخرطوم، لم تعد قضية يمكن مناقشتها ولا توجد مبررات لطرحها، فقد حسم قانون الجنسية السودانية الوضع القانوني لرعايا دولة الجنوب بإسقاط الجنسية السودانية عنهم، وقرر مجلس الوزراء في السودان ذلك ولا مجال لإثارة هذا الموضوع من جديد ولا يمكن قبول جنسية مزدوجة على الإطلاق. فإن كان ذلك ممكنًا يا سيد أمبيكي فلماذا الانفصال إذن؟ وما الجدوى من جنسية مزدوجة، فنحن نرفض حتى الحريات الأربع فكيف نقبل مرة أخرى متقهقرين للوراء ما يُسمى بالجنسية المزدوجة؟! فهذه مجرد أحلام فقط ولم تعد قضية خلاف بين البلدين، ولا يمكن مناقشة هذا الأمر مرة أخرى. وينطبق ذلك على العملة فما إن انفصل الجنوب حتى سارعت كل دولة إلى طرح عملتها الجديدة وهي خطوة تتجاوز كل ما يمكن أن يثار من نقاش جديد، ومسألة العملة مرتبطة بالسيادة الوطنية ومفهومها لكل طرف، فضلاً عن كون إصدارها في السودان وفي جمهورية جنوب السودان له علاقة مباشرة بحماية الاقتصاد الوطني من الفوضى والتضخم وجرائم تجارة العملة، ولا توجد أية مشكلات تتعلق بالعملة أو مواقف أحادية تنذر بخلاف، إلا إذا كانت دولة جنوب السودان لا تزال تستخدم الجنسية السودانية في تعاملاتها. أما القضايا الفعلية التي لابد من نقاشها وانطلاق جولة مفاوضات حولها، فهي قضايا الحدود والترتيبات الأمنية في جنوب كردفان والنيل الأزرق والبترول وأبيي. وحتى تكون الأمور واضحة ففي قضية الحدود حاولت حكومة الجنوب خلال وجود الجنوب جزءًا من السودان تعويق حسم الخلافات الحدودية والتقاعس عن عمل اللجنة الفنية لترسيم الحدود وظلت تفتعل مثيرات الاحتقان والخلاف بشأنها، وحتى عندما تسارعت بفعل الاهتمام من لجنة أمبيكي وجهات دولية أخرى، حول الحدود لم تشأ حكومة الجنوب في ذاك الأوان حسم مسألة المناطق الأربع أو الخمس التي ثار فيها نزاع حدودي وهي حفرة النحاس وجودة الفخار والمقينص وكاكا التجارية بالإضافة لأبيي. صحيح أن الرؤية لحسم هذا الخلاف الحدودي إن لم تُحسم في مفاوضات أديس القادمة التي وافق الرئيس البشير علي إرسال الوفد السوداني إليها، سيتم رفعها للتحكيم الدولي في محكمة العدل الدولية بلاهاي على غرار كل التنازعات الحدودية بين الدول في العالم لأنه خلاف بين دولتين جارتين. قضية أبيي ستظل كما هي لا يمكن للجنة أمبيكي أن تحقق فيها شيئاً فالمنطقة شمالية والحل فيها معروف ومن الأوفق إجراء الاستفتاء فيها بسرعة وهو الحدّ الأدنى الذي يقبله أصحاب الأرض المسيرية إن تعقّدت الأمور. أما الترتيبات الأمنية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، فهي محددة في بروتكولي المنطقتين وهما ولايتان شماليتان، لا وجود فيهما بعد الآن لأي قوات ومليشيات تتبع لحزب، وليس هناك حزب مسجَّل ومُعترف به قانوناً يسمى الحركة الشعبية بالسودان. إذا كانت اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى تريد من المفاوضات القادمة في أديس الوصول بسرعة لحلول تستقيم بها علاقة البلدين، فعليها التسليم بالحقائق الموضوعية في القضايا المثارة وألّا تفتح تفاوضًا جديدًا في قضايا محسومة، وإلا فستكون لجنة أمبيكي تعرض خارج الزفّة وتُصبح غير مرغوب في تدخلاتها.