اختلال ميزان ما يُسمى بالعدالة الدولية الذي نشأ من أول يومه مختلاً يزداد اليوم شدة في اختلاله وانهياره وتداعيه السريع نحو نقطة السقوط والتلاشي المتوقع، وسوف يخلق على هوانه ووهنه مزيداً من الاضطراب والصراع والفوضى التي سوف تضرب مراكز الأمن والسلام في العالم بأسره، وليس إقليماً أو قارة فحسب. إن نشأة عصبة الأممالمتحدة وميثاق الأممالمتحدة لحقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة وما تفرع عنها من أمانة عامة ومجلس الأمن الدولي وأخيراً المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسس ميثاقها بروما لم تحقق السلام والأمن العالميين بصورة دائمة، وغابت معالم العدالة الدولية في العالم، ليس هذا فحسب بل صارت هذه المؤسسات الدولية التي تزعم أنها محلاً لتحقيق العدالة الدولية، مصدر شر مستطير ووكراً للظلم وازدواجية المعايير والتسلط على الأنظمة وصراع المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية على حساب العدل والحقوق الأساسية. إن الدول التي تسمي نفسها بالدول الكبرى. ومنها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، صارت هي مصدر الشر والظلم في العالم، وأضحت تتسابق وتتنافس في خرق بنود القانون الدولي الذي صار مطية سهلة المقود، لتحقيق مصالح تلك الدول لجهة أنها الداعم الأكبر لتسيير مؤسسات العدالة الدولية المتوهمة هذه من النواحي الإدارية واللوجستية والفنية، الأمر الذي مكّنها من الهيمنة والسيطرة التي باتت سيئة المظهر والأثر حملت العالم كله على رأس قنبلة موقوتة توشك أن تنفجر في أقرب حين، مفجرة حرباً كونية ثالثة لاتبقي ولا تذر لو قدر اندلاعها نتيجة التقدم التقني والنووي الجرثومي والكيميائي يزكّيه اصطراع حضاري وأيديولوجي محموم. إن انهيار نظام العدالة في العالم هو الذي جعل لا يخلو مؤتمر أو قمة أو جتماع إقليمي أو دولي حتى من داخل اجتماعات الأممالمتحدة والمنظمات الإقليمية من المطالبة بإجراء إصلاحات جوهرية في أنظمة وقوانين ومواثيق ودساتير العدالة الدولية. بما يتسق مع حقوق الإنسان المعاصرة التي تعرضت للانتهاك والمصادرة في أهم عناصرها، مثل حق البقاء والحياة الذي هو المنبع والأصل لحقوق الإنسان، فما يشاهد اليوم من تقتيل وتدمير للإنسان في سوريا ومصر والعراق وأفريقيا الوسطى ومينامار وأماكن أخرى في العالم. يمثل صدمة ووصمة عار على جبين مواثيق العالم لحقوق الإنسان، وذبح للضمير الإنساني الذي رضي بإذلال الإنسان وهضم حقوقه. في عالمنا العربي والإسلامي قفزت الحاجة الملحة لإعادة التفكير والنظر بصورة جادة، لإيجاد كيان عدلي إقليمي يلبي مطلوبات حقوق الإنسان منطلقاً من بيئة المنطقة مستصحباً القيم الدينية والثقافية والحضارية لإنسان المنطقة، وذلك بعد السقوط الفاضح البيّن للمحكمة الجنائية الدولية التي صارت تراعي المصالح السياسية للغرب الكافر، والتي لم تستدع حتى الآن واحداً من الأمريكان أوالبريطانيين أو الفرنسيين أو الروس أو الصرب أو الإسرائيليين رغم كثرة الجناة والمجرمين الذين انتهكوا حقوق الإنسان وارتكبوا جرائم حرب في الفلوجة وأبو غريب وغوانتنامو والجزائر ومالي وأفريقيا الوسطى وافغانستان والبوسنة والبلقان وغزة وفلسطين ومواضع كثيرة من العالم،من هذه الدول المذكورة آنفاً. الأمر الذي يقود إلى حقيقة واحدة وهي أنه لا عدالة في العالم ولا احترام لحقوق الإنسان! وما يسوّد به الصفحات من تقارير محض افتراء ومزاعم كالح وجهها. تبعاً للشعور بحاجة داعية إلى تحقيق العدالة واحترام حقوق الإنسان تعالت أصوات الكتاب والإعلاميين والصحفيين والأكاديميين والساسة المعتدلين من ذوي الأخلاق والضمائر بالدعوة إلى إنشاء محكمة عدالة إسلامية، واقتصر بعضهم الدعوة إلى قيام محكمة حقوق الإنسان العربية، وإن كانت الدعوات قديمة ولم تتوقف على مدى أربعين سنة ، مطالبة بإصلاح حال الجامعة العربية التي نشأت هي الأخرى، مشلولة وصماء من أول يومها منذ نشأتها في أربعينات القرن الماضي،لم يحدث شيءبعد، ومطالبة البعض الآخر بقيام جامعة الدول الإسلامية، رغم هذه الدعوات لا تبدو حتى الآن في الأفق القريب تباشير إصلاح أو قيام مؤسسة عدلية شاملة يحتكم إليها الجميع، وتعيد كفة ميزان العدالة المختلة إلى موضعها في البلاد العربية والإسلامية، حيث لا تزال الشعوب العربية خاصة ترزح تحت قيود الاستبداد السياسي والفساد الإداري والاقتصادي التي تمارسها الأنظمة العربية، التي أدت إلى مصادرة كثيراً من حقوق الإنسان في مجالات حق الحياة والخدمة المدنية والمساواة أمام القانون، وحقوق الحريات الصحفية والتعبير وتحسين أوضاع المعيشة، والتعليم والصحة، وحقوق التنمية المتوازنة. ظهرت في الآونة الأخيرة الدعوة إلى قيام محكمة حقوق الإنسان العربية لمراقبة انتهاك حقوق الإنسان في البلاد العربية، والنظر في الانتهاكات التي تمارس ضد الإنسان التي تجاوزت الحبس التحفظي والاعتقال والجلد والتعذيب والصقع بالكهرباء والشتم والإرهاب إلى الاغتيال والقتل والتصفية خاصة فيما يتصل بحرية الصحافة في كثير من البلدان العربية، حيث إن الصحافي ناقل للأحداث والمعلومات في عالم الزيف والغشاوة، والصحافي يعيش في الأضواء بينما السياسي المستبد يريد أن يعيش في الظلام وعوالم الأوهام والظنون، إذاً ما يُشاهد اليوم من انتهاك لحقوق الإنسان في البلاد العربية وخاصة في مصر وسورياوالعراق، يتطلب تبني دعوة صريحة وقوية إلى قيام محكمة حقوق الإنسان العربية المستقلة بعيداًعن تأثيرات الأنظمة السياسية المستبدة. نأمل أن تضطلع المنظمات الحقوقية والمحامون والقضاة العادلون المنصفون والحكام الراشدون وفئات الشعوب لتحقيق هذه المطالب العادلة. أما مصر الرسمية فلا تصلح بعد اليوم أن تكون مقراً يستضيف الجامعة العربية على ضعفها وهوانها، لأن مصر اليوم أشد الدول العربية انتهاكاً لحقوق الإنسان والدليل على ذلك أن رابعة العدوية تمثل وصمة عار على جبين مصر، وأبشع انتهاك لحقوق الإنسان والحرية في هذا القرن. كما أن سوريا مثّلت الهزيمة العالمية في انتهاك حقوق الإنسان ونازية حديثة أندت الجبين، وتحولت العراق إلى إقطاعية طاغية يدعى نوري المالكي الطائفي السفاح الذي فضحته الأنبار التي قطّع فيها أوصال المسلمين السنة، وهو يصدر عن نفس أمريكا في المنطقة ولو شاء أن يعطس لاستأذن أمريكا محور الشر في العالم. في هذه الأجواء القائمة الحالكة تتطلب المرحلة نشأة محكمة حقوق الإنسان العربية لكبح جماح طغيان الأنظمة العربية الفاسدة، التي لم ولن تؤيد قيام هذه المحكمة وهي تدري أنها ولغت في دماء الشعوب، وحملت عليها سياط الفقر والعوز والحرمان والتضييق ومصادرة الحقوق المادية والمعنوية، حتى قال بعضها «ما أريكم إلاّ ما أرى» وقال بعضها الآخر «أنا ربكم الأعلى» وفي وسط هذه الأجواء تبرز الحاجة إلى وجود هذه المحكمة وهي لا محالة قادمة إلى الوجود ولو بعد حين.