كثير من الغموض اكتنف أحداث الجزيرة أبا وبعض من الذين حضروا أحداثها لم يدلوا عنها بالكثير الذي يكشف أسرار تلك الفترة الهامة من فترات السودان إذ ظلت الجزيرة أبا حكراً على بعض الأشخاص الذين يسردون روايات منقوصة منهم الصحفي المصري محمد حسنين هيكل الذي أثار حديثه عن أحداث الجزيرة أبا وموت الإمام الهادي المهدي كثير من اللغط ووصفت معلوماته بالمكذوبة وبأنها غير حقيقية ومحض افتراء وتزوير للتاريخ الذي شهده ثلة من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وفي بحثنا عن الحقيقة المجردة بلا تجميل فتحنا ملف الجزيرة أبا للأجيال القادمة وبدأناه من الشيخ أحمد عبد الرحمن الذي يعتبر مهندس الجزيرة أبا فماذا قال في الحلقة الأخيرة؟.. ماذا حدث لمرافقي الإمام بعد موته؟ تم اعتقالهم جميعاً عز الدين الشيخ وابنه وسائقه الخاص وبابكر عبد الله وعبد المطلب بابكر ومحمد الصادق الكاروري. لماذا لم يتم إسعاف الإمام وتُرك لينزف حتى الموت؟ هذا الأمر تشوبه علامة استفهام كبيرة فليس هناك تفاصيل حول هذا الأمر وكنت وغيري نتساءل لماذا لم يتم إسعاف الإمام لأقرب مستشفى سواء في الكرمك أو الدمازين أو ترحيله للخرطوم عبر الطائرة التي جاءت لتعتقل الذين معه فالإمام ليس شخصية سهلة ليتم التعامل معه بهذا الشكل. كيف تم دفن الإمام؟ دفنه ناس الأمن والجيش في تلك الأحراش على طريق الكرمك والدمازين وليس معلوماً كيف تم دفنه وهل تم غسله وتكفينه أم دُفن فقط هذه معلومات لا أدري عنها شيئاً، بعد فترة طويلة حاول الصادق المهدي أن يخرج مسرحية وقاموا بأخذ بعض من رفات الإمام وعرضها على عبد الحميد صالح باعتباره طبيباً ليتعرف على الرفاة وشهد أن هذه الرفاة تخص الإمام وأُسدل الستار على هذا الأمر. نعود لمهدي إبراهيم بعد وصوله لإثيوبيا ماذا حدث؟ بعد حريق المحلج توجه مهدي إبراهيم بضوء الحريق بأقدامه إلى جبل دود ووجد رجلاً في أحد القهاوي يقول إنه بانتظار الذين خرجوا ليوصلهم إلى خارج الجزيرة أبا وبالفعل ذهب إلى مدينة ربك ومن هناك أوصله صديقه محمد أحمد الشيخ إلى الحدود الإثيوبية ومكث هناك شهراً هو وود الفضل وبقية الإخوة ومن ثم توجهوا إلى جدة، كنت منزعج جداً في ذلك الوقت ووجهت الأخ الدكتور شمس الدين عابدين بأخذ كاميرا والذهاب لبيروت والالتقاء بمحمود حسن شقيق صلاح حسن المدرب ويذهب لبيت الجبهة الوطنية وهو بيت مدام ماريكا فإذا وجدوا الهاتف هذا يعني أن ناس الجبهة الوطنية موجودين وسيعطوهم معلومات وإن لم يجدوا الهاتف فعليهم بالذهاب إلى الحدود بين السودان وإثيوبيا ويحاولوا يعرفوا ويسمعوا من الناس ما الذي حدث، بعد فترة طرق الباب في وقت مبكر ولما فتحته وجدته مهدي إبراهيم الذي كان متعباً ومنهاراً وحكى لنا الموضوع خاصة استشهاد محمد صالح عمر الذي قال إنه سمع بعض العساكر يتحدثون عن اختلاف الشبه بين الرجل الذي استشهد وبين أهل المنطقة ومن أوصافه علم مهدي إبراهيم أنه أخونا محمد صالح عمر. ماذا كان رد فعلكم على ما حدث؟ اتفقنا ومعي الأخ زين العابدين الركابي على التفاعل مع هذا الحدث الكبير ومساندته بالإعلام، وعلى الفور أقمنا مؤتمراً صحفياً بجدة ومعي الأخ علي عبد الله يعقوب وكان مؤتمراً محضوراً لتزامنه مع مؤتمر آخر بذات الفندق وقد حرص الناس على أن يعرفوا ما هي الجزيرة أبا وأدلينا بمعلومات جيدة بحكم أن علي عبد الله من ذات المنطقة واختلفنا في عدد القتلى، علي عبد الله قال «800» ألف وأنا قلت «80» ألف هو عدد قتلى القصف على الجزيرة. هل بالفعل كانوا بهذا العدد الكبير؟ بالطبع لا، كانوا أقل من ذلك بكثير. لماذا إذن غيرتوا الأرقام الحقيقية لعدد القتلى؟ كانت هذه حملة صحفية أردنا من خلالها إدانة هذا الأمر وتعريف الناس بالجزيرة أبا ولفت الأنظار. هل وقف الأمر على ذلك المؤتمر فقط؟ لا. في ذات الليلة خطرت للأخ زين العابدين الركابي فكرة وهو من الصحفيين الموهوبين وكان له دور كبير في مواجهة النظام الناصري خطرت له فكرة أن يكتب مذكرة يتقمّص فيها شخصية الإمام الهادي ويرسلها لعبد الناصر وبالفعل كتبها وعندما قرأت الفقرة التي تقول المفتقر إلى ربه كانت مثل ما يكتب الإمام خطاباته، وفي الصباح أرسلناها لصحيفة الحياة اللبنانية ببيروت وثاني يوم كانت المذكرة مانشيتاً كبيراً بالخط الأحمر تحت عنوان الرسالة الأخيرة التي أرسلها الإمام لعبد الناصر. لكن أليس هذا تزوير متعمّد للتاريخ؟ تقريباً هو كذلك وهذا ما حدث والأغرب من ذلك في مرة من المرات كنت مع محمد أحمد محجوب وجدته يكتب في هذه الرسالة في كتابه الموسوم بالديمقراطية في الميزان بلندن ولم أقل له إن هذه الرسالة لم يكتبها الإمام الهادي. لماذا لم تخبره بحقيقة الرسالة؟ لم أرد أن أمنعه من إرفاقها بكتابه وقلت فليقرأها أناس آخرين. هل تشهد أن من كتبها هو زين العابدين الركابي؟ نعم أشهد على ذلك، وقد أرفقها أحد أبناؤه في كتيب صغير أهم ما فيه هذه الرسالة التي قال إن والده كتبها لعبد الناصر، ولذلك الواحد يشك في كيفية كتابة التاريخ. لماذا لم تصحح هذه المعلومة مؤخراً لأبنائه؟ صححت المعلومة في أكثر من مناسبة وقلت بأن كاتب الرسالة الأصلي هو زين العابدين الركابي الذي تقمص شخصية الإمام. بعد الرسالة كيف كان رد الفعل آنذاك؟ أحدثت رد فعل كبير جداً جاء مجموعة من الناس الموجودين في الجزيرة أبا معظمهم أنصار وتجمعوا في معسكرين هما الشهيدي وقندر في إثيوبيا حينما تجمعوا لم يكن الأنصار حينها مصدقين أن الإمام قُتل فقال الشريف حسين الهندي اتركوهم على هذا الفهم بأن الإمام حي لم يمت لأن مجموعات كبيرة من الأنصار كانت ستخرج للبحث عن الإمام الغائب ومن هنا رسخت فكرة الإمام الغائب وحتى عندما أراد الصادق المهدي قراءة الفاتحة على روح عمه أجمع عدد من القيادات على الإبقاء على فكرة أن الإمام حي ولم يمت. من صاحب فكرة الإمام الغائب؟ الشريف حسين الهندي لكن فكرة الإمام الغائب هي فكرة شيعية؟ بالضبط هي فكرة جهنمية «بتاعة شيعة» فالأنصار إلى الآن لا يزال بعضهم مصدقاً بأن الإمام غائب وليس متوفي، فقد جاءت أعداد كبيرة تبحث عن الإمام وهذه كانت فرصة للقوى السياسية لمواجهة أخرى. ماذا حدث بعد نهاية الجزيرة أبا؟ فقدنا أكبر قاعدة وسند وداعم لنا في المنطقة وهي المملكة العربية السعودية لم يدينوا قتل الإمام ولم يقولوا شيئاً فقط صمتوا، وجاء عدد من إخوتنا الحركيين القياديين عائدين إلى المملكة لأنهم في الأصل كانوا بها، وكنت أنظم لهم بعض البرامج للترويح عنهم بعد الإحباط الذي أصابهم بعد الجزيرة أبا، وأذكر كنا مجموعة نسبح في البحر الأحمر سمعنا عبر راديو السيارة بانقلاب هاشم العطا. ماذا فعلتم؟ ناديت كل الإخوة واطلعتهم على الخبر وكنا أول من بشر به في المملكة باعتباره انقلاباً شيوعياً وأخطر من سابقه، وتجمعنا مرة أخرى ومعنا مجموعات من الأنصار وكان رأي السعودية واضحاً أن ما حدث قد حدث وهذا تخفيف علينا. بعد أن عاد نميري مرة أخرى كيف كان موقف المملكة منكم؟ هم بالطبع صبروا علينا في البداية ووقفوا معنا لكن عودة النميري الثانية وخاصة بعد ضرب النميري للشيوعيين وزيارة النميري للمملكة وتقربه منهم جعلهم يخبروننا صراحة بعدم رغبتهم في وجودنا بأرضهم. هذا طرد واضح؟ نعم في البداية أحسسنا بالأمر لكنهم أخبرونا صراحة نادونا جماعات وأفراد وطلبوا منا المغادرة، كان النميري في زيارة للمملكة وكان مستشاره مزمل غندور أذكر أني ذهبت إليه ليلاً في السفارة واقترحت عليه دعوته لمأدبة غداء أو عشاء بمعية بقية الإخوة وذكرتهم له فأخبرني صراحة أنهم جاءوا ومعهم أسماء الموجودين في المملكة للقبض عليهم أعطاني الورقة فوجدت أخونا ود الفضل على رأس القائمة ومعه كل الإخوة بالسعودية ومعنا بعض الإخوة وليسوا بمعارضة لكن أسماءهم موجودة. ماذا فعلت بعد ذلك؟ ذهبت لمهدي إبراهيم حتى اقترح عليه الذهاب لتأدية العمرة فأخبرني أحدهم بإلقاء القبض عليه فذهبت مباشرة لمسؤول الاتصالات الذي يوصلنا للملك وبقية المسؤولين واحتججت بأن زيارة عبد الناصر للسعودية لم تجعل الحكومة تلقي القبض على الإخوان المسلمين المصريين ولم يتم طردهم بل تم تخييرهم وبقي البعض والبعض الآخر أعطوهم تذاكر سفر للجهات التي اختاروها فلماذا نحن، بعدها ذهبت لود الفضل لأعرف ماذا حدث وجدت أنه قد تم القبض عليه لأخذ بصمته فمنعته قائلاً أنت لست بمجرم فلماذا يأخذون بصمتك لكنه ذهب معهم وأكملوا الإجراءات ومن ثم جاءت موافقة الملك فيصل بإخراج الأخوين مهدي إبراهيم وود الفضل ووضعا في فندقين أحدهما في المدينة والآخر في جدة وفي هذه الفترة ختما القرآن عدة مرات. هل طلبتم مقابلة نميري بعد زيارته للمملكة؟ نعم، أخبرت عمر نور الدائم بأننا يجب أن نقابل النميري وكنت قبلها قد طلبت من الأخ مزمل غندور مقابلة النميري رغم كل الذي حدث وأخبرني بأنه سيفيدني في الأمر، في اليوم الثاني أفادني برفض النميري مقابلتنا بحجة أننا خططنا لاغتياله بقيادة محمد صالح عمر، لكن وافق على مقابلة عمر نور الدائم لكن اعترض عثمان خالد وقال طالما رفض مقابلتنا فلن نقابله ولن يذهب عمر نور الدائم، لكن تحدثنا في الأمر وذهب عمر لمقابلته فقال له النميري «أنا أعطيت الشيوعيين ثقة كاملة لدرجة أنهم كانوا يأكلون معي في غرفتي الخاصة فغدروا بي وخانوني فلن أثق بأحد مرة أخرى». ماذا فعلتم بعد هذا الرفض؟ اقترحت عليهم الذهاب للسفارة ومقابلة نميري ونخبره بأن ضربه للحزب الشيوعي أسقط 50% من مطالبتنا وبقي لنا 50% متبقية، وأذكر رفض عثمان خالد الذهاب فسحبناه بالقوة وأخذناه معنا وبالفعل ذهبنا وكان حدث كبير جداً ولما قابلناه قلت له المشوار بيننا وبينك انتهى وأصبح قضية وطنية وربنا يوفقك وإن شاء الله يكون بيننا تفاهم في المستقبل، ثاني يوم كل المملكة تحدثت عن المصالحة التي تمت في لقائنا بنميري. الجهة التي طلبت مغادرتكم المملكة حينها؟ الجوازات والهجرة، وأذكر أن ود الفضل غضب وقال لهم إن القرآن يمنع ما تفعلوه بنا وتلا عليهم كل الآيات التي تدحض حجتهم ولما جئت بعده أردت التحدث فقالوا لي لقد جاء أحد قبلك وتلا علينا نصف القرآن ولم يترك آية إلا وقرأها علينا، فقلت لهم «اسمعوا أنا ما بقرأ ليكم قرآن ولا حاجة لكن أدوني جوازي داير أعمل لي تأشيرة»، فقالوا لي إلى أين أنت ذاهب قلت لهم ألم تطردوني مالكم بي، وكان لدي تأشيرة على لندن وجاءتني دعوة من أحد الأخوان بالكويت بعدما سمعوا بما حدث، ولما أصر الضابط على معرفة وجهتي قلت له «ماشي إسرائيل». كيف كان رد فعله؟ اندهش وقال لي ليس لإسرائيل مكان هنا عندها قلت له هذا لا يعنيك في شيء وتركت لهم جوازي وذهبت، ولما عدت للجامعة أخبرتهم بما دار بيني وبين الجوازات وتركي لجوازي بحوزتهم، فتمت معاملتي بصورة خاصة وتفهم تام وتركوا أبنائي إلى أن أكملوا عامهم الدراسي وخرجت أنا إلى لندن ومعي عدد من الإخوة منهم مهدي إبراهيم وود الفضل وبعد خروجنا إلى لندن أردنا أن نقيم مظاهرة بعائلاتنا مجتمعة في الهايد بارك ونحتج على طردنا من بلد مسلم وبعد أن كتبنا للجهات المختصة ووافقوا على منحنا حق التظاهر غيرنا رأينا. لماذا؟ بعد دراسة الموضوع من كل جوانبه شعرنا أن مثل هذه المظاهرة سيستفيد منها اليهود. قل لي من أين لكم بالتمويل لكل ما تفعلون؟ أجابني ضاحكاً: إنت ما عندك حظ. سألته لماذا؟ أجابني لأنك لو سألتي هذا السؤال والشريف حسين موجود لكان أخبرك من أين يأتي بالأموال. بالواضح كدا التمويل من الشريف حسين الهندي؟ نعم إلى حد كبير التمويل من الشريف الله يرحمه وكانت تأتينا دفعيات كنا نرسل بعضها لإخوتنا بالداخل وخاصة لأولئك الذين كانوا في المعتقل. أعلم أنك كنت المسؤول عن أسر المجاهدين الذين ذهبوا لإثيوبيا والجزيرة أبا؟ بالفعل كنت المسؤول عن الأسر وأذكر أن زوجات الإخوة كن قلقات على أزواجهن ويردن معرفة أماكنهم وكنت أطمئنهن وكانت معنا بالمنزل زوجة أخونا محمد صالح عمر الذي تركهم لنا وكانت قلقة على مصيره فاتصلت بالأخ محمود الحلو من كبار الأنصار وكان يقيم في كوستي وأرسلت له رسالة بأن أسرة محمد صالح عمر ستأتي من المملكة مباشرة لمدينة كوستي ليروا والدهم ويطمئنوا عليه، وهذا قبل ضربة الجزيرة أبا مباشرة وقد كان، فقد رأوه وإطمأنوا عليه وعادوا أدراجهم ومن بعد ضُربت الجزيرة أبا واستشهد محمد صالح عمر. كيف كان وقع الخبر على أولاده؟ كان مؤلماً وأذكر أننا كنا مجموعة أنا والشريف ومهدي إبراهيم وأخبرنا زوجته بأن تصبر على المصاب رغم عدم تأكُدنا من حقيقة الوضع وقلنا لها نحن غير متأكدين ولا نستطيع الجزم بموت محمد صالح عمر لكن كل الدلائل تؤدي لذلك، وبالفعل صبرت واحتسبت. من الذي كان يكتب لكم المنشورات؟ كان يكتبها أخونا زين العابدين الركابي وكان يطبعها أخونا ود الفضل وكنا نوزع المنشورات في موسم الحج والعمرة وغيرها. حكاية الجزيرة أبا انتهت بموت الإمام وأُسدل الستار؟ الجزيرة أبا نعم انتهت بموت الإمام لكن المواجهة والجبهة الوطنية الخارجية لم تنتهِ استمرت إلى أن جاءت المصالحة عام 1976م.