رغم الجوار الجغرافي بين مصر والسودان والتداخل الكبير بين الشعبين بالتصاهر والتزاوج منذ فجر التاريخ ورغم نجاح الدراما المصرية التي تعكس صورة حقيقية ومباشرة للحياة في مصر في السيطرة على مزاج وذوق المشاهد السوداني واطلاعه عليها بشكل يومي، رغم ذلك تجد ان هناك جوانب كثيرة من عادات وطبائع اخوتنا المصريين غير معروفة لدينا خاصة لمن لم يزر ارض الكنانة ولم يخالط المصريين فربما يصاب الزائر لمصر اول مرة بالدهشة من بعض ما يراه او يسمعه أو ما يصادفه من مواقف طريفة أو محرجة.. قبل ربع قرن من الآن بالتمام والكمال وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي سافرت ولأول مرة الي مصر طالباً للعلم عبر نظام البعثات التي كانت مصر توفر فيه فرص للدراسة للطلاب السودانيين بجامعاتها ومعاهدها العليا المختلفة حتي أُلغيت من جانب السودان على يد وزير التعليم العالي آنذاك ابراهيم احمد عمر في ما عُرف بثورة التعليم العالي وقد كان قرار الإلغاء خاطئاً مائة بالمائة.. . كنت وأنا أتهيأ للسفر الي مصر اشعر بانني ذاهب الي بلد أعرفه وأعرف أهله ولم أكن أشعر بالقلق والخوف كثيراً من الإحساس بالغربة ومرارتها فقد درست المرحلة الثانوية في مدارس البعثه التعليمية المصرية بالسودان وكنت أظن أنني سأكون «دليلاً» لغيري في التعامل مع المصريين والحياة في مصر، ولكن سرعان ما كذبت الشهور الأولى لي هذا الظن واكتشفت أني كنت أبالغ في زعمي هذا حيث وجدت صعوبة واضحة في فهم الكثير من الاشياء ووجدت ان الفجوة بين الصورة التي كانت في مخيلتي والصورة الحقيقية على ارض الواقع كبيرة.. وكثيرة جداً هي المواقف والطرائف التي مرت عليّ طوال سني الدراسة خاصة الاولى منها.. أذكر أننا وفي أول جمعة مرت علينا وكنا نسكن في حي «المنيل» في شارع الملك عبد العزيز آل سعود ان لم تخني الذاكرة، ذهبت ومعي زملائي بالشقة وكنا كلنا «برالمة» الى أداء صلاة الجمعة في المسجد المجاور وكان المسجد في «البدروم» وبعد أدائنا لتحية المسجد رأينا أحداً من المصلين يقوم من مكانه وهو يرتدي بدلة «أفرنجية» كاملة غاية في الأناقة والروعة وهو حليق الذقن والشارب ويتجه نحو المنبر حتى صعد اليه وألقى التحية على المصلين .. انه الخطيب والإمام الذي سيصلي بنا الجمعة فاندهشنا ونظر بعضنا الى بعض في لحظة واحدة في استغراب شديد وزادت دهشتنا حين ألقى الرجل علينا خطبة عصماء كاملة الأركان .. وعندما انتهت الصلاة خرجنا نضرب كفاً بكف، أحد الزملاء قال إنه ليس مستغرباً من هيئة الرجل فحسب ولكنه يريد أن يعرف هل تجوز الصلاة تحت الارض! .. موقف آخر سبّب لي حرجاً بالغاً حدث أيضاً في مسجد حيث كنت أمسك بالمصحف أتلو فيه واذن الأذان وبعد انتهائه قمت لأصلي ركعتين فوضعت المصحف على الأرض أمامي ريثما أفرغ من الصلاة لأعود للتلاوة مرة أخرى الى أن تقام الصلاة فهرول اليَّ المؤذن وانتهرني بشدة مستنكراً وضعي المصحف على الأرض طالباً مني إعطاءه إياه بعد أن وبّخني على هذه الفعلة وكان كل من بالمسجد ينظر اليّ شذراً واستنكاراً فعرفت أنهم لا يفعلون ذلك وما كنت أعرف عنهم ذلك من قبل فنحن في السودان الى ذلك الوقت كنا نفعل ذلك ظناً بأن أرض المسجد طاهرة ولا حرج في وضع المصحف عليها وحتى الآن أرى البعض هنا في مساجدنا يضعه على الارض بلا مبالاة وفي ذلك إثم كبير.. ومن المواقف الطريفة أيضاً والتي تبيّن جوانب من اوجه اختلاف الثقافات حتى بين شطري وادي النيل حدثت ونحن داخل قاعة المحاضرات وكنا يومها أنا ومعي زميل آخر من احدى قرى النيل الأبيض بالقاعة نتابع المحاضرة حينما ألقت أستاذة المادة سؤالاً على الجميع فما كان من زميلي هذا الا وأن «فرقع» أصبعيه بشدة طالباً الإذن للإجابة عن السؤال كما كنا نفعل في فصول الدراسة في المدارس لأخذ الفرصة أو الاستئذان، فالتفت اليه كل من بالقاعة ما بين مندهش ومستنكر وكانت الأستاذة الأكثر اندهاشاً فقالت له في غضب: «ايه التخلف دا ؟ إحنا ف مكان محترم عيب تعمل كده».. فوجم صاحبي وقد تصبّب عرقاً رغم برودة الطقس وهاله ما سمع وأصيب بما يشبه الصدمة ولم يستطع التفوه بكلمة من هول المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أبداً ونظر اليَّ كأنه يستنجد بي، وكنت قد توقعت رد فعل الأستاذة منذ أن فرقع صاحبي أصابعه فمن خبرتي في الدراسة بالمدارس المصرية كنت اعرف ان هذه «الحركة» ممنوعة عندهم ومستهجَنة ويرونها تنم عن جلافة وعدم تهذيب، فإذا أردت أن تأخذ الفرصة داخل الفصول والقاعات الدراسية ما عليك الا ان ترفع ذراعك الى أعلى وتبسط كفك ليراها الأستاذ فيأذن لك، فقمت وإنقاذا لصديقي ونجدةً له وانتصاراً لسودانيتنا التي شعرنا أنها قد أُهينت رفعت يدي طالباً الإذن كما يفعلون فمنحتني الأستاذة الإذن ظناً منها أنني اريد الإجابة عن السؤال الذي طرحته آنفاً فاستأذنتها في توضيح موقف صاحبي فقلت لها إنه لم يقصد ما فهمته وفهمه الجميع ولكن الامر لا يعدو أن يكون اختلاف ثقافات.. فنحن في السودان نفعل ما فعله بشكل اعتيادي داخل الفصول وقاعات الدراسة والأمر هناك ليس له أية دلالات سالبة كما هو الحال عندكم .. والحق يقال فقد اعتذرت الأستاذة لصاحبي بكلمات رقيقة ومؤثرة في الحال وأمام الجميع ومنحته الفرصة لكي يجيب عن السؤال الا أنه كان قد امتلأت جوانحه غيظاً وغضباً فاعتذر عن الاجابة عن السؤال بإيماءة منه ولم يتفوه بكلمة.. وشابت العلاقة بينه وبين هذه الأستاذة نوع من الحساسية فكان هو لا يطيق رؤيتها لأنها تذكره بذاك الموقف أما هي فكانت تترفق به استرضاءً له وتكفيراً عما تشعر به من ذنب تجاهه. غلوتية صعبة: الصادق المهدي قال إن الترابي «عزمه» على انقلاب، الترابي «تاني يوم» ينفي بشدة هذا «الزعم»، الصادق المهدي «تاني يوم» يستدرك و«يصحح» المعلومة ويقول إن «العزومة» كانت في سنة 1988م، وسنة 88 كان الصادق المهدي رئيس وزراء منتخب!!. من يحل هذه الغلوتية الصعبة؟.