انطلق ليلة الإثنين الماضي الموافق 6 أبريل 2014م بقاعة الصداقة بالخرطوم مؤتمر الحوار الوطني التشاوري للقوى السياسية، الذي دعت إليه الدولة، لإجراء حوار وطني شامل يصرف البلاد عن المخاطر التي تحيط بها، ويضع حداً ولو نسبياً بعد عون الله تعالى للأزمات السياسية والاقتصادية والفساد الذي تعانيه الدولة في مفاصل هياكلها المختلفة. ولبت دعوة الرئيس للحوار الوطني الذي جاء في اطار الوثبة، وتحت شعار السودان أولاً أحزاب سياسية كثيرة بلغت ثمانين حزباً ونيفاً، ومهد الرئيس للنقاش في أول أمره بإصدار قرارات مهمة أعتقد أنها تمثل مدخلاً جيداً للحوار، وتعضد ثقة القوى السياسية في توجه الدولة الجديد نحو أهمية الحوار وإلغاء استراتيجية الإقصاء والهيمنة واقتسام الثروة والسلطة بطريقة جائرة تستجيب للولاءات الهشة والضيقة والمعادلة القبلية والجهوية، دون مراعاة للكفاءات والمهارات الشخصية، هذه القرارات التي وجهت بإطلاق الحريات الصحفية والإعلامية، وفك حصار نشاط القوى السياسية لممارسة نشاطها السياسي داخل دورها وخارجها التي كانت قد منعت منه، خاصة النشاط في الميادين العامة والجامعات.. وتقييد ذلك بتصديق الشرطة والأجهزة الأمنية، حيث يبتدئ بالمماطلة والتأخير ثم ينتهي أحياناً بالرفض بينما كان المؤتمر الوطني يستأثر بتلك الميزة كاملة، لأن الدولة تم تذويبها في المؤتمر الوطني وهذا خطأ استراتيجي، هذه القرارات إيجابية. ولبت قرارات السيد رئيس الجمهورية حاجة الوقت الحالي بإطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين والتأكيد على ضمان تأمين حملة السلاح والمعارضة الخارجية، للمشاركة في الحوار الوطني الشامل الذي بدأ يوم الأحد 6 أبريل 2014م باللقاء التشاوري العام، وبالتأكيد هذه القرارات قرارات مسؤولة وموفقة تمهد الطريق نحو مصالحة وطنية عامة، وتوافق سياسي عريض يتولى شأن معالجة أزمات البلاد، لكن التحدي هنا قائم على مدى قدرة رئاسة الجمهورية على متابعة تنفيذ تلك القرارات المهمة، ذلك لأنه لدينا تجارب كثيرة سابقة أن هناك جهات تنفيذية صغرى داخل مؤسسات الدولة تعطل وتجمد قرارات رئاسة الجمهورية دون أن تجد من يحاسبها!! وبالنظر إلى مؤتمر اللقاء التشاوري من حيث الإعداد والمكان والحضور والمشاركة للقوى السياسية والأجهزة الإعلامية، كان مشرفاً وحقق الغرض المستهدف بنسبة كبيرة جداً، ومثل ناشئة أمل قوية نحو غايات وطنية جارٍ البحث عنها منذ أمد طويل، وزين جيد اللقاء نهج الرئيس الجديد حين أعطى كل متحدث فرصته، ليقول ما شاء أن يقول ثم يصمت، وجرى أيضاً في هذا اللقاء شبه صفاء وعفو بين كثير من أقطاب القوى السياسية المختلفة في ما جرى بينها من قبل من تخاصم وتنازع واتهامات، ولذلك كان اللقاء فرصة لإزالة الشحناء وتلك غاية سامية، كما أن اللقاء أيضاً بعث في تلك القوى، قوى الحكومة وقوى المعارضة الروح الوطنية والمكاسب التاريخية للبلاد، وذكر بقيم ومثل وتجارب أهل السودان في التصالح والتجاوز والقدرة على تناسي مرارات الماضي، وقوى اتجاه أن هذه فرصتكم الأخيرة، وأن هذا شعبكم أيّها القادة ينتظركم ويتعشم في إجماعكم وتصالحكم، لأجل الأمة والشعب والوطن. وطرح بعض قادة القوى السياسية قضايا كثيرة من خلال هذا اللقاء كان أهمها: تهيئة الأجواء للحوار، واعتماد الحوار وسيلة وحيدة ناجعة للحل، وتشكيل آلية للحوار، ومسألة اشراك الجميع في الحوار، وتقوية الثقة وتجاوز الولاءات الضيقة إلى الولاء للوطن، وتحقيق الوحدة الوطنية، وإصلاح الشأن السياسي والاقتصادي والعلاقات الخارجية، وبسط حريات الصحافة والتزام الاطراف جميعاً بمخرجات الحوار، وإيلاء قضية إيقاف الحرب وبسط السلام الشامل الأهمية القصوى وتلك وجهات نظر ممتازة. وهنا أود أن ألفت الرأي العام إلى نقاط أساسية وهي رغم الأمل الذي علقه الشعب ومازال على مؤتمر الحوار الوطني العام في ان يكون ترياقاً اميناً لأوجاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلاّ انه في تقديري أن هذا اللقاء التشاوري دق الصفائح وأخرج كثيراً من الفضائح أهم هذه الفضائح، وأن كثيراً من قادة الأحزاب ورؤساء القوى السياسية يعانون من ضعف حقيقي مشاهد وملموس وضح من خلال هذا اللقاء والتداول، حيث كان كثير منهم يكرر ويثني على كلام من سبقه بالحديث، ليقول أثني كلام فلان وأشيد دون أن يضيف هو شيئاً جديداً، وغرد بعضهم خارج شبكة اللقاء والحديث، ونحى آخرون منحى وجدانياً وسرداً تاريخياً بعيداً عن التفكير السياسي والطرح الاستراتيجي الذي يولد أمهات الأفكار الكلية المبدعة.. لقد كان بعض قادة الاحزاب اشباح دمى تشرفت بالمكان ولم تُشرفه.. قادة ورؤساء أحزاب يتعتعون في الحديث ويعانون عياً في الخطابة وخواءً في الفكر وطريقة التفكير وهذه كارثة أمة، وفي تقديري باستثناء حديث دكتور الترابي ودكتور السيسي وبعض من حديث دكتورة فاطمة عبد المحمود، وجملة مفيدة قالها دكتور بابكر احمد نهار، حين قال الجيل الحالي في خطر بمفهوم الوعي السياسي، وأضاف قائلاً: علينا أن نتواصى بالحق وان نتواصى بالصبر، وموسى محمد احمد الذي أحسن ايضاً الحديث في نقاط جيدة وكذلك مسار، بينما كان دكتور غازي صلاح الدين النجم الأول في هذا اللقاء بطرحه القوي وفكره السديد واستعداده النفسي الجيد، فضلاً عن كونه كان مرتباً وهادئاً بعيداً عن الصراخ والهتاف الخالي من المضمون والفكر، بينما ظهر آخرون من رؤساء الأحزاب وكانوا مكسري ثلوج ليس أكثر من ذلك ولا أقل؟ دكتور غازي صلاح الدين طرح أفكاراً ممتازة، منها أولاً: وصف الاولويات الوطنية وتحديدها، ثانياً: استقلال آلية الحوار، وان تلتزم الدولة والقوى السياسية بقراراتها، ثالثاً: اقترح أن يكون هذا اللقاء جمعية عمومية، لتسيير حلقات الحوار، وأبان أن مهام هذه الآلية قياس التزام الاطراف بقرارات الحوار ثم لخص أمهات الموضوعات التي تُبحث في الحوار وحددها في ايقاف الحرب، وانقاذ الاقتصاد، واعادة صياغة العلاقات الخارجية، وتهيئة ميدان العمل السياسي، واخراج الأجهزة الامنية من العمل السياسي.. د. غازي تكلم قليلاً لكنه اصاب وتجلت حنكته وكفاءته وخبرته السياسية والفكرية في هذا الطرح، واقترح الصادق المهدي قيام مجلس قومي للسلام، ومهما يكن من نقاش اعتقد ان وجود الترابي وغازي والصادق والسيسي وموسى محمد احمد وعبد الله علي مسار الذي ساهم برؤية ثاقبة وهو أيضاً من القلائل الذين يتمتعون بمهارة الحركة والتجدد وقوة المواقف، ولذلك وجود هؤلاء وآخرين مضافاً لسهولة الرؤية والخبرة التي ادار بها الرئيس الحوار كانت مخرجات اللقاء مبشرة يمكن أن تحقق اهدافاً بتمام آلياتها المقترحة. وانتهى في خاتمة هذا المقال إلى التذكير بقضيتين أساسيتين تجاهلهما اللقاء ولم يجدا حظاً وافراً من الحديث وهما، الدستور والهوية وان كانت الاخيرة قد اشير إليها بخجل، إلا انه لم يتحدث احدٌ عن اهمية الدستور الذي يعتمد الاسلام والشريعة منهج حياة في الحكم والسياسة والاقتصاد لشعب السودان، وهنا أود أن الفت وجهة النظر العامة إلى انه قد كُثر الحديث عن هوية السودان، حتى صار يتلكم كثيرون عن الهوية وهم لا يعرفون مدلول هذه الهوية الاصطلاحي واللغوي، وهنا اتعجب ان يتحدث مسلم عن حسم هوية السودان بينما لا يدري هذا المسلم، أن المسلم هويته الفكرية والثقافية والعقدية الاسلام!! وهل هناك هوية تقوم على أكثر من مفهومي مجموع القيم العقدية والفكرية من جهة، ومجموع القيم والعادات الثقافية من جهة أخرى؟ إن عنصري أي هوية هما الدين ولغة ذلك الدين وكفى. ولذلك الذين يتحدثون عن ان هوية البلاد لم تحسم بعد، أو غير معروفة أو غير محددة، هؤلاء لا يفهمون معنى الهوية، فالمسلم ينبغي أن يفهم مدلول قوله تعالى «إن الدّين عند الله الإسلام» ثم أليس الاسلام بكافٍ ؟.. أليس الاسلام منهج حياة هادي؟.. أليس الاسلام قابلاً للتطبيق ومرونة التجديد في الوسائل والادوات؟ أرجو أن تستمر حلقات مؤتمر الحوار منقولة مباشرة، ليحاكم الشعب من سموا أنفسهم رؤساء احزاب، وقد اقترب للناس استحقاقهم الانتخابي.. وبالبيان والفكر يعرفان العالم والمتعالم.