في عودة لإثارة المعضلات المتعلقة بالفكر السياسي الإسلامي والتي نرى وجود ضرورة التطرق لها في إطار الحوار الوطني السوداني الجاري في الوقت الحالي، نواصل الإشارة لما ورد في محاضرة «الأزمة الفكرية المعاصرة.. تشخيص ومقترحات للعلاج» وذلك على النحو الذي أدلى به المفكر الإسلامي العراقي د. طه جابر العلواني الذي شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولاياتالأمريكيةالمتحدة عام «1981» وهي المحاضرة التي أدلى بها في حلقة دراسية نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام «1988» بعنوان «نحو نظرة إسلامية للعلوم الاجتماعية» وذلك بناءًً على اقتراح من اللجنة الثقافية لرابطة الشباب العربي المسلم التي شعرت في تلك الفترة بوجود مشكلة متميزة تواجه قطاعاً مهماً من شباب الرابطة الذين يدرسون العلوم الاجتماعية في الجامعات الغربية. وفي سياق هذا الإطار، وتحت عنوان «قضية الجبر والاختيار» ذكر د. العلواني في المحاضرة التي أصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في كتاب عام «1989» أن قضية الجبر والاختيار هي من قضايا الفكر التي لا بد لها من معالجة، لأنها لا تزال تُثار اليوم وستثار غداً وبعد غد. وباختصار شديد نستطيع أن نقول عن الخلفية السياسية لهذه القضية مثلاً، أن معاوية رضي الله عنه حين آلت إليه الخلافة سمع أحد الصحابة رضوان الله عليهم يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يردده في بعض الأحيان بقوله «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت»، ويقولون إن معاوية تلقف هذا الحديث وعممه على الجميع، وطلب من الناس ترديده، وبدأ في مقدمتهم يردده في الصباح وفي المساء، ويعتبره من الأمور المأثورة التي لا بد من ترديدها، وهذا شيء طيب، فذكر الله سبحانه وتعالى في الصباح والمساء هو جزء من عمل اليوم، لكن القضية الأساسية التي رُبطت بذلك أو بُنيت عليه، عملية ترويج معاوية لهذا الأمر كانت مرتبطة بأمر أن كل هذه الأشياء التي عملها أو تعملها الدولة هي لله سبحانه وتعالى وهو المسؤول عنها. ويضيف د. العلواني أن ما أشار إليه أعلاه كان مما دفع الحسن البصري وهو من أئمة التابعين وكبارهم، وقد عاصر وشهد واتصل بخمسمائة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب رسالة قيمة إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يعاتبه فيها على إشاعة هذا النوع من الأفكار، ويقول له إنكم ترسلون شرطتكم يهينون ويظلمون الناس، وتقولون إن هذا قدر، وأن من وكلائكم وعمالكم من يشرب الخمر ويعتدي على الناس وتقولون هذه إرادة الله، بينما جاء في سورة الأعراف قوله سبحانه وتعالى: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون». ويشير د. العلواني إلى أن الرسالة التي كتبها الحسن البصري إلى الخليفة عبد الملك بن مروان هي رسالة طويلة وقيمة وتعالج وتبين الخلفية السياسية وراء قضية الجبر والاختيار التي تحولت إلى قضية عقيدية، حين ندرسها على أنها قضية أوجدتها السياسة، ونخرج ما كتب حولها بعد ذلك، وكل النقاش المتعلق بها من المأزق العقيدية تصبح قضية فكرية تناقش سياسياً وتحلل وتنتهي، لكن حينما نناقشها من الزاوية العقيدية يكون لها شكل آخر. ويضيف العلواني أن مناقشة هذه القضية من الزاوية العقيدية عملية ممزقة للأمة باستمرار لأننا كلما ذكرناها ينقسم الناس إلى فريقين أحدهما جبري والثاني قدري، وبالتالي يُكَفِر كل منهما الفريق الآخر، وينسب كل منهما الآخر إلى البدعة. وحينما تقدم هذه القضية أو المعضلة بطريقة مدروسة تأخذ خلفيتها السياسية والفكرية وكيفية نشأتها ويتم تحليلها بناء على ذلك ويقرأها الناس تنتهي وتصبح قضية أخرى بعيدة عن المأزق الذي تناقش فيه في العصر الحالي.