لا أجد في هذا الوقت وفي هذه اللحظات ضرورة لتناول قضايا الفساد، ومطالبة فلان أو علان بالاستقالة لأنه مسؤول عن فتح الطريق على الأقل لبعض عمليات الفساد، في حين أن التطورات الأمنية في الجنوب وصلت إلى مستوى إذا كان سيقلل من المشكلات الأمنية في البلاد إلاَّ أنه يؤزم من ناحية أخرى المشكلات الاقتصادية والتجارية، مثل عبور النفط، ورحلات أبقار المسيرية «خمسة ملايين رأس» في الصيف نحو الجنوب، وها هو الصيف أقبل بهجيره، وتصدير السلع الأساسية وهي بالعشرات ويمكن أن تُدخل إلى خزينة الدولة العملة الصعبة التي تحتاجها البلاد في استيراد الخام لكثيرٍ من الصناعات المختلفة. فالانشغال بقضية فساد واحدة من ضمن مئات القضايا عن التطورات في ساحة دولة جنوب السودان التي يربطها بالسودان فضاء حيوي معلوم يبقى من باب ردة الفعل الانفعالية. ما دام أن القضية قضية فساد وقد فاحت رائحتها ويمكن بعد ذلك أن توضع أمام القضاء، فلنترك الأمر للسلطة القضائية المستقلة و«نقرع الواقفات».. نعم: «الجفلن خَلَهِن أقرع الواقفات». ما ضاع من المال العام بالسرقة والاختلاس والاعتداء والتجنيب قد «جفل» وقد يعيد القضاء بإذن الله جزءاً كبيراً منه. لكن هذه الأيام دعونا مع فاقد عائد رسوم عبور النفط الجنوبي وأبقار عرب كردفان ودارفور، وخطورة السلاح في أيدي المرتزقة وهم يتحركون في خطوط الإمداد بين المناطق الجنوبية التي تسيطر عليها حكومة سلفا كير، ومعسكرات التمرد في بعض مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وإقليم دارفور. إن ظاهرة النهب المسلح بالأسلحة النارية في إقليم دارفور منذ ستينيات القرن الماضي كانت واحدة من إفرازات الحروب والنزاعات التشادية خاصة في سبعينيات القرن الماضي، ولذلك يمكن أن تستنسخ هذه الظاهرة في جنوب كردفان والنيل الأزرق بعد حسم جيوب التمرد تماماً. وحتى لو وقع قادة التمرد هناك مثل عقار والحلو على اتفاقية «امتيازات» أو مزيد من «الامتيازات» التي ستضاف إلى امتيازات نيفاشا، فهذا لا يعني اجتثاث المشكلة الأمنية من جذورها، فقد يظهر قطاع الشمال «2».. كما ظهرت بعد اتفاق حكومة نميري وحركة أنانيا عام «1972م» أنانيا «2»، بقيادة عبد الله شول، إلا أن تمرد جماعة قرنق قد خطف منها زمام الحرب ضد حكومة الخرطوم.. كانت حكومة «مايو» نفسها. كانت مجموعة من حركة أنانيا بقيادة جوزيف لاقو لها مآخذ على اتفاقية أديس أبابا «1972م»، لكن خلية قرنق التي هي نفسها كانت جزءًا من ذات الاتفاقية، وكان لها طموح كبير، هو مشروع السودان الجديد، وكانت لها مخططات مختلفة فقد استوعبت حركة قرنق عناصر شمالية، وأقحمت مناطق شمالية أيضاً في ملف قضية «الجنوب» إلى حينٍ طبعاً. وقد كان إلى حين التوقيع على اتفاقية نيفاشا. الحرب في جنوب السودان يتأثر بها السودان اقتصادياً أكثر من تأثره بها أمنياً، بل أن الناحية الأمنية قد تتحسن لانشغال «بلد منطلقات التمرد» بما عليها من مشكلات داخلية، وتتحسن معها العلاقات بين الخرطوموجوبا. إن تحسن الأمن بسبب حرب الجنوب الداخلية الحالية شكل أرضية لتحسين العلاقات بين البلدين، فبعد إعلان «استقلال» الجنوب.. ذهب سلفا كير إلى إسرائيل، لكن بعد إعلان تمرد مشار داخل الجنوب هرول سلفا كير إلى الخرطوم. وكان قد ذهب لإسرائيل ولسان حاله يقول لها، إن الجنوب أصبح مهيأً لانطلاق المؤمرات الصهيونية منه ضد الخرطوم، بل ضد كل القارة الغافلة. وإذا كانت حكومة جوبا قبل تطوراتها الأمنية الحالية وقبل إبعاد باقان ومشار ودينق ألور تتحدث صباح مساء عن دعم وتمويل الخرطوم لمتمردين جنوبيين، فإن الخرطوم الآن أصبحت في غنى عن هذا الدعم والتمويل إذا صح أنها كانت تريده وتفعله، وأصبحت جوبا في غير حاجة لهذا الاتهام فالحصل أكبر.