ان المتغيرات العديدة التي تحكم عالم اليوم، تفرض بما لا يدع مجالاً للاختيار على الأمم والشعوب التي تريد أن تصنع لها مكاناً تحت الشمس، تفرض عليها أن تظل في حالة حراك دائم وبحث مستميت من أجل الوصول بمجتمعاتها إلى الغايات الكلية التي تؤدي في النهاية إلى خلق مجتمع الكفاية بمفهومه الواسع. ولعل أبرز ما يميز المجتمعات التي استطاعت تأسيس بنيتها الحضارية وإعادة تشكيل واقعها الاجتماعي والاقتصادي بما يتناسب والمتغيرات التي فرضها التقدم العلمي والتقني اليوم، لعل أبرز ما يميزها، يتمثل في انخراطها في تطوير وتطبيق منظومة علمية وعملية من أجل خلق ارتباط وثيق وقوي بين العملية التعليمية التي تعمل على صياغة مكونها البشري والحاجة الحقيقية التي يتطلبها هذا التقدم العلمي الهائل على كل المستويات. لقد ظلت العملية التعليمية في السودان رهناً لكثير من المتغيرات التي صاغت الدولة السودانية. فعندما بدأ التعليم في السودان في عهد الاستعمار كان الهدف منه خدمة الأجندة الاستعمارية وتحقيق غاياتها دون أدنى اعتبار للأهداف الوطنية للأمة السودانية، وظل ذلك ديدن الحال حتى تم أنشاء معهد التربية بخت الرضا الذي احتفظ لفترة طويلة بخصوصيته المتصلة بمعرفة احتياجات المعلمين في مجال التدريب مع متابعة تنفيذ المناهج في الحقل، وظلت بخت الرضا تقوم بعملية تدريب المعلم المتخصص وترفد العملية التعليمية بكادر مؤهل تماماً للقيام بمهامه. واستمر الحال كذلك مع مجيء أولى الحكومات الوطنية التي عملت على تغيير هذا الواقع بعض الشيء ليتماشى مع التطور السياسي الذي شهدته البلاد. وتمت إعادة صياغة المناهج بما يتوافق مع التوجهات الجديدة للأمة، ثم تم تعديل السلم التعليمي الذي كان وفقاً لنظام المناهج والهيكلة البريطانية، حيث كان يعتمد نظام المراحل الثلاث، وكلا منها تمتد لأربع سنوات. وتم التعديل في عام 1969م، وجاء ذلك ضمن توصيات المؤتمر القومي للتعليم العام، حيث أصبحت الهيكلة تعتمد نظام المراحل الثلاث وتمتد لاثني عشر عاماً، تشكل المرحلة الأولى منها ما مقداره ست سنوات، وهي المرحلة الابتدائية، وتتشكل المرحلتان الأخريان من نظام ثلاثي السنوات، وظلت المرحلة المتوسطة مرحلة انتقالية بين المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية، وكانت تمثل مرحلة مهمة ومفصلية في العملية التربوية، ولا نقول التعليمية، ذلك لأنها تعمل على تهيئة الطالب للانتقال من مرحلة عمرية معينة بكل ما تحتويه من تفاصيل دقيقة، والدخول في مرحلة أخرى تزدحم بمفردات تفصيلية تختلف اختلافاً بيناً وجوهرياً عما سبقها من مراحل. وهي في ذلك تراعي هذا الاختلاف وتوفر له من الكوادر المؤهلة والمدربة على التعاطي مع مفرداته بكل ما يلزم لرفد المجتمع بأجيال متوافقة نفسياً وسلوكياً، بل وتوفر له بيئة مؤهلة أكاديمياً واجتماعياً عبر أساتذة متخصصين ومنهج مبرمج ليخدم هذة الفئة العمرية تحديداً، وذلك بعد وعبر دراسات مستفيضة. لقد ظل المنهج والمعلم هما العنصران الفاعلان في العملية التعليمية والتربوية. وهما بلا شك حجر الزاوية في العملية برمتها. فالمنهج يعمل على تنمية المهارات واستحداث الأفكار ويؤدي الى تعديل الميول والاتجاهات من خلال المعارف والخبرات المتراكمة. وهو في ذلك يعمل على إعادة تشكيل العقل وفق المنهجية المتبعة، ولذلك فهو من الخطورة بمكان. والمعلم يظل هو الجسر الذي يعبر من خلاله جل إن لم يكن كل مدخلات العملية التعليمية والتربوية التي تعمل على توفيرها المنظومة التعليمية برمتها. لقد تم في عام 1990م عقد مؤتمر قومي لسياسات التربية والتعليم، وكانت مخرجات هذا المؤتمر وتوصياته هي التي تشكل الواقع التعليمي الحادث الآن بكل معطياته. لقد ظلت العملية التعليمية تشهد تداعيات شديدة الخطورة منذ أن بدئ في تنفيذ توصيات المؤتمر. وانعكس هذا الأمر على المحصلة النهائية لهذه العملية التي يمكن القول عنها وبكل بساطة أنها أدت الى خلخلة النظام التعليمي دون أن تحدث التغيير المطلوب الذي من أجله وضعت، فأدى ذلك الى إضعاف مخرجاتها بصورة كبيرة. والآن تعلن وزارة التربية والتعليم العام عن شروعها في تنفيذ مخطط لسلم تعليمي جديد، ستشمل تفصيلاته، وبكل تأكيد، كل النظام التعليمي. إن التغيير والبحث عن الأفضل هو واجب وضرورة حتمية لا بد من اعتبارها، ولكن إجراء تغيير بهذه الضخامة وتعميمه بالصورة التي سيتم بها هو شيء فيه ما فيه من الخطورة، وذلك لأن مجتمع الدراسة سيكون هو كل المجتمع، ولقد ظللنا وعلى مدى سنوات بل وعقود نعاني الأمرين من مثل هذا الأمر. إن المطلوب الآن وقبل إحداث مثل هذا التغيير، أن تتم دراسة الوضع من كل جوانبه، خاصة أن التكلفة المالية لهذا الأمر ستكون شيئاً ضخماً جداً، ناهيك عن التكلفة الأخرى في حال أثبت التعديل الجديد فشله تربوياً وتعليمياً «تماماً كما حدث لسابقه». إننا ندعو إلى التريث في تطبيق ما أعلنته الوزارة ومحاولة إعادة تقييم الأمر بإجراء المزيد والمزيد من الدراسات والاستشارات للمختصين في كل المجالات ذات الصلة، على أن يتم ذلك بعقلية منفتحة تستطيع استيعاب كل ما يطرح من أفكار ورؤى، وذلك من أجل حاضر ومستقبل أجيالنا، وحتى نستطيع أن نراهن على خلق واقع أجمل لبلادنا في مقبل الأيام.