ليس الثراء دائماً هو جواز مرور لتحقيق النجاح، هكذا يقول الواقع والمنطق والتاريخ. الطالبة هند أحمد محمد ابنة بائع يمتلك عربة كارو يتحرك فجراً بالطبع بعد أداء صلاة الفجر في المسجد القريب من منزله، ومن ثم يتجه لشراء الخضار وبيعه متجولاً بعربة الكارو في حارات مدينة الثورة، هكذا هو البرنامج اليومي لوالد الطالبة هند، لكن يوم الخميس الماضي لم يكن يوماً عادياً للبائع المتجول، بل لكل أسرته البسيطة، ففي نهار ذلك اليوم كانت هند تترقب إعلان النتيجة بشيء من التوتر والقلق المشروع.. حتى تحقق الأمل المنتظر المصنوع بالعرق وسهر الليالي، حيث أذيع اسمها ضمن المتفوقين في شهادة الأساس والمرتبة الأولى على ولاية الخرطوم. الزميل أحمد دندش بصحيفة«السوداني» نقل بصورة قلمية، ملحمة الفوز الذي اختلط بالدموع والدعاء الصادق. تقول هند للمحرر: إن أول كلمة قالها لها والدها عندما علم بالخبر «الله يحفظك»!! بينما لم تستطع أن تتمالك والدتها نفسها فانخرطت في البكاء، ويضيف التقرير قائلاً: «إن هند من أسرة بسيطة ولها شقيقة تدرس مختبرات طبية بجامعة الخرطوم، وهي التي كانت تقودها للامتحانات إبان فترة مرضها الشديد الذي داهمها خلال تأديتها للامتحانات». إذن هند غالبت المرض بالعزيمة والإصرار وبتوفيق من الله ربما ببركة دعاء والديها، وقصدنا أن نختار حالة الطالبة هند التي أوردها تقرير «السوداني» باعتبار أن والدها بائع متجول يعتمد على «تلاقيط» الرزق في كل صباح جديد، في حين أن مليارديرات يمتلكون المليارات والدولارات المليونية قد يفشل أبناؤهم في الدراسة رغم جلب أفضل المعلمين في الدروس الخصوصية، ورغم وجودهم في المدارس الخاصة، ورغم ما يوفر لهم من غرفة خاصة وكتب ومراجع وحاسوب متطور وهاتف ذكي وسيارة فارهة تنقلهم إلى المدرسة وطعام يسيل له لعاب الفقراء وربما يرتجف له لسان المتشردين شوقاً وشبقاً عند رؤيته، إضافة إلى ألعاب الترفية والتسلية التي يوفرها الأثرياء لأولادهم، صحيح أن عدداً من أبناء هؤلاء الأثرياء يحققون تفوقاً في الدراسة، لكنه نجاح تدخل فيه الصناعة أي المسببات الظرفية المعينة له، في حين أن الطالبة هند ابنة البائع المتجول رغم البساطة التي تعيشها وإصابتها بحمى التايفويد واليرقان أثناء الامتحانات، ومع ذلك وفي ظل هذه الظروف الصعبة حققت المستحيل وتحصلت على التفوق وفق ما خططت وتمنت. ونتمنى أن تقوم ولاية الخرطوم بتأجير متجر لوالد هند لبيع الخضار على أن تدفع له إيجار عام كامل وهو ليس بكثير على ولاية تعج بالرسوم ومحلياتها متخمة بالجبايات. وقصة نجاح ابنة البائع المتجول ذكرتني مشهداً طريفاً مضت عليه سنوات طويلة، ففي ذات يوم ساخن ارتفعت فيه حرارة الشمس وسال فيه العرق غزيراً ولم يجد المصطفون في موقف المواصلات وسيلة تقيهم الشمس سوى حائط أو ظل حافلة تمرد سائقها من العمل، أو ربما صحيفة توضع على الرأس، وفي ظل الانتظار الطويل ومعركة الكر والفر للفوز بمقعد شاغر في إحدى الحافلات أو البصات الكبيرة، تمكنتُ بعد جهد كبير من حشر نفسي ضمن الأمواج البشرية التي تنافست للدخول داخل أحد البصات المتهالكة العتيقة، وامتلأ البص حتى أن الوقوف في الممر يصعب على الواقف أن يريح فيه كلتا قدميه، بينما امتلأ السلم تماماً وبعضهم كانوا يقفون فيه بطريقة أشبه بالأكروبات، وبعد كل تلك الظروف وحرارة الشمس الملتهبة كانت حركة المرور تسير بوتيرة بطيئة جداً، الأمر الذي فاقم من معاناة الركاب الواقفين أو «المتشعلقين» أكروباتياً، و فجأة لاحظ عدد من الركاب المتجهين على الجانب الشمالي سيارة فارهة جداً تركب فيها فتاة شابة في الخلف ويقود السيارة سائق، ويبدو أن الفتاة طالبة في نهاية المرحلة الثانوية من خلال هيئتها العمرية أو ربما في السنة الأولى الجامعية، وكانت السيارة تسير ببطء في محازاة البص نسبة للزحام المروري وكانت الأعين تتجه إليها إذ كانت مسترخية تماماً في المقعد الخلفي تلعق الآسكريم بتحريك لسانها بطريقة لا تخلو من الدعة والراحة، فعلق أحد الواقفين داخل البص وأحسب أن قدمه قد أصابها الخدر من جراء الوقفة غير المريحة قائلاً: «بالله شوف البنت المرطبة نحن هسه وشنا مسلوخ من السخانة وما قادرين نحرك كرعينا والله أنا خائف بعد الترطيب ده كلو تسقط في القراية»، فرد عليه آخر: «يا خوي بسقطوا أولادكم إنتو المتشعلقين بكراع واحدة في البصات وكل يوم يساسكوا في البصات لمن حفت كرعيهم»، وانفجر من في البص ضاحكين بينما البنت «المرطبة» كانت قد أكملت لعق الآسكريم وتراجعت للخلف في المقعد وأغمضت عينيها بعد الترطيبة وتكييف السيارة الفارهة. تُرى هل نجحت تلك الفتاة «المرطبة» في دراستها أم أنها لم تصل إلى ربع ما حققته هند ابنة البائع الجائل أول أمس؟