تساءلنا، أمس، عمَّا تعيَّن على الأمريكان بقيادة الصهاينة أن يفعلوه، حتى يتجاوزوا إشكالية اتفاق الطائفتين السنية والشيعية على عداء اليهود ومشايعيهم، وحتى يحوِّلُوا هذا العداء الإسلامي المبدئي تجاه أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، إلى عداوة مذهبية فاجرة بين الطائفتين المسلمتين، تكفيهم مؤونة الدفاع عن دولة إسرائيل اللقيطة، بتحويل أسلحة المسلمين إلى صدور إخوانهم، وتحييد الفريقين من المسلمين أو أحدهما، تجاه مغتصبي الأقصى.. الحلُّ لمثل هذا الإشكال جاء توليفةً من عدة عناصر: أولاً : لا بُدَّ من «إسالة دماء» بين الطائفتين، يبتدر سلسلة من الثأرات، التي يشحنها ويُذكيها الازدراءُ الديني والتكفير، وهذا تمثل بوضوحٍ في سلسلة عمليات «انتحارية» مجهولة المنشأ، في العراق خصوصاً، ظل الإعلام الغربي يرجِّحُ بحيادٍ مصطنع أنها من تدبير القاعدة «في حال كون الضحايا أومعظمهم من الشيعة أو إذا استهدفت العملية دار عبادةٍ شيعي»، كما ظل ذات الإعلام الغربي يرجِّحُ نسبة العمليات المشابهة التي تستهدف دور عبادة أوتجمعات سنية إلى «انتحاري شيعي».. وجود عناصر المخابرات الأمريكية والموساد بالعراق في أعقاب احتلال العراق أطلق أيديهم في تدابير متنوعة تُنتج ما يبدُو «عمليات انتحارية»، يكفي، مثلاً، تفخيخ سيارة يقودها سني، ومتابعة مسارها، أوربما حتى بتوجيه سائقها بالسير بطريقٍ بعينها لدواعٍ أمنية «حيث كان الجنود الأمريكان ينصبون نقاط التفتيش في كل طرقات العراق»، ومن ثم متابعة مسارها ثم تفجيرها عن بُعدٍ حين تُحاذي موقعاً أوتجمعاً شيعياً، ثم .. ها هُو ذا انتحاري سني يقوم بتفجير حسينية شيعية، وقل مثل ذلك عن العمليات التي تستهدف السنة!!، هذا مثالٌ من آلاف الأمثلة التي ظلت المخابرات الأمريكية والموساد تُذكي بها فتيل العداوة بين الشيعة والسنة، فتوغِرُ صدور الطائفتين إحداهما تجاه الأُخرى، فيجتهدُ قصار النظر من القادة الدينيين في الطائفتين في استدعاءِ الخلاف الديني وتكفير «العدُو» أولاً، حتى يُمكنُ إباحة دمه، خصوصاً والدماءُ لم تجف!! ثانياً: التركيز على العناصر المتطرفة، متواضعة الفقه، لدى الطائفتين، مع التركيز أكثر على أمثال هؤلاء لدى الطائفة السنية الأكبر حجماً والأقوى، والعمل على تقديم أفرادها إعلامياً «كعلماء» وفقهاء، والسماح لهم بالتمدد الإعلامي «وكمثال على ذلك، أعرفُ شخصاً مغموراً ممن يكتبون في بعض الصحف العربية، أفرد سلسلة مقالات هتافية في التحذير من تمدد الخطر الشيعي في الدولة التي ينتمي إليها، واجتهد اجتهاداً كبيراً في ما سمّاه «فضح فساد عقائد الروافض» والإزراء بهم، تلقى اتصالاً عقب سلسلة كتاباته تلك من فضائية أمريكية شهيرة، تنطلق من دولة عربية محتلة، تطلب استضافته في برنامج يناقش محتوى مقالاته تلك، فشلتُ حين استشارني في الأمر في إقناعِهِ بأن للفضائية تلك أجندة تختلف عن أجندته الشخصية». فأمثال هؤلاء، برغم أنهم لا يمثلون التوجه الفقهي العام لدى الطائفة التي ينتمون إليها، وليسُوا بذوي وزنٍ في مضمار العلم أو الفقه أو القيادة الدينية، إلا أن التكريس الإعلامي المتعمد لهم يُمكنُ أن يُسفر عن تسويقهم كعلماء حقيقيين، يفلحون على التأثير خصوصاً في أوساط الشباب الذين يسهُلُ إبهارُهُم إعلامياً.. وتفلحُ دائماً حساسية قضية الخلاف السني الشيعي، في إحراج الكثيرين من علماء المذهب السني الحقيقيين وذوي الفقه، حيث يكونُ أي حديثٍ لهم عن حقيقة المخطَّط اليهودي الأمريكي في إثارة الفتنة بين المذهبين، حديثاً قابلاً للتأويل ب«تعاطف» صاحبه مع «الروافض»، وربما اتهامه بالتشيُّع، هذا من قبل المتنطعين في المؤسسة الدينية السنية، بينما يكونُ الرجُلُ عُرضةً من جانبٍ آخر إلى «ارتياب» المؤسسة السياسية في بلده، حيث تدخُّل علماء الدين في السياسة تجاوزٌ خطير!!.. وهكذا يلوذُ معظم العلماء الذين كان ينبغي لهم مواجهة هذا المخطط الخبيث، بالصمت إيثاراً للسلامة، ويقيناً بأن لا تأثير لصوته بين آلاف الأصوات المهرجة المهتاجة.. ثالثاً: عبر تدابير دبلوماسية سياسية مباشرة، منها كما ذكرنا العمل المتواصل على تخويف جيران إيران من العرب من المشروع النووي الإيراني وتصويره كأداة مستقبلية لإيران على قهر جيرانها من العرب واحتلال أراضيهم، ومنها أيضاً التخويف مما يسمَّى بالمد الشيعي أو تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول المجاورة، وبرغم أن الكثير من القيادات العربية لا يشغلها كثيراً أمر «الدين»، ولكن تهديد «الكراسي» واردٌ بشدة حيثما دار حديث عن «تصدير الثورة».. الخطابُ الأمريكي الرسمي لا يكف لحظةً عن تخويف العرب من إيران، برغم أن إسرائيل هي الأجدرُ بأن يخافها العرب، لا إيران، كما أن إسرائيل في ذات الوقت هي الأجدرُ بالخوف من المشروع النووي الإيراني لا العرب، وهي خائفةٌ بالفعل، ولكنها مباشرةً أو عبر الأمريكان تُريد أن تجعل العرب شُركاءَ لها في هذا الخوف، وشُركاء لها في عداوة إيران، بل أتباعاً لها في الحقيقة، والتبعية هي مقامٌ دون الشراكة بكثير، وبرغم أننا لا نقلل من شأن الخلافات السياسية ما بين العرب وإيران، ولا من خطر الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة الذين تنهضُ إيران ممثلاً لهم باعتبارها الدولة الشيعية الوحيدة على الأرض، برغم هذا، إلا أننا نرى أن من واجب القيادات الفكرية والفقهية والسياسية العربية أن تميز بدقةٍ بين العدُو الإستراتيجي للعرب وللمسلمين، الذي هُو بلا خلافٍ ولا شك إسرائيل ثم حلفاؤها، وبين العدُو المرحلي «لبعض العرب وليس كلهم» والذي يُمكنُ في أية لحظة قادمة أن يُصبح صديقاً، الذي هُو إيران.. هذه الرؤية الإستراتيجية هي التي عبَّرَ عنها الملك الأندلُسي البصير، المعتمد بن عبَّاد، يوم أن خُيِّرَ بين أن يكونَ تابعاً ذليلاً لملك قشتالة «الفونسو» يركعُ بين يديه لقاء أن يحتفظ بكرسيه، وبين أن يستنجد بملكٍ مسلمٍ هُو يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، والذي كان خصماً يهابُهُ ويخشى أطماعهُ بممالكهم ملوك الطوائف الأندلسيون.. فاختار المعتمدُ ما أشار به عليه قاضي القضاة «ابن أدهم» معبِّراً عن حكمة اختياره ذاك بالكلمة التي ظلت، على مدى أكثر من نصف قرنٍ، شاهداً على «إستراتيجية» تفكير الرجُل : «لأن أرعى إبل ابن تاشفين في مراكش، خيرٌ لي من أن أرعَى خنازير الفونسو في قشتالة.».. إن أفضل ما يُمكنُ أن يظفرَ به العرب إن هُم نصرُوا الأمريكان في حربهم ضد إيران، هُو أن يرعَوا خنازير أوباما في واشنطن «وربما خنازير نتنياهُو في تل أبيب»، في حين أن أسوأ ما يُمكنُ أن يتعرضُوا لهُ إن هُم نصرُوا إيران في حربها ضد أمريكا وإسرائيل، هُو أن يرعَوا إبل نجاد، في طهران، فأي الأمرين، يا تُرى، كان المعتمد بن عباد يختار، إن هُم خيَّرُوه؟