في إطار السياق الذي نرى بموجب الانطلاق منه والبناء عليه أن ما يجري مع السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار في الوقت الحالي، وعلى النحو الذي أفضى لاعتقاله بشأن ما أدلى به حول اتهامات موجهة لما يسمى بقوات التدخل السريع التابعة لجهاز الأمن والمخابرات والخاضعة لقوات الشعب المسلحة في أداء المهمة المكلفة بها، إنما ينطوي لدى النظر له في دلالته ذات المغزى البعيد المدى والشديد الوطأة والثقيل الوزن على ما يشير إلى ما قد يكون مسعى للتأثير على العلاقة المتميزة التي ظلت كامنة وقائمة ومتجسدة ومتجذّرة بين الجيش والسياسة في السودان أو بعبارة أخرى بين الشعب السوداني وقواته المسلحة ذات الطابع السياسي، وذلك على النحو الجاري في هذا النموذج الساري منذ مراحل النضال ضد الاحتلال والاستعمار الأجنبي وحتى تحقيق الاستقلال الوطني وإلى الوقت الحالي. في سياق هذا الإطار للرؤية المتعمقة التي نرى أنها أكثر فائدة في الإحاطة الواعية والمتعلقة بالنظر إلى الأبعاد والجوانب المؤثرة والفاعلة والمنفعلة والمتفاعلة فيما يتعلق بما يجري مع السيد الصادق المهدي في الوقت الحالي، أشرنا أمس إلى أن النموذج السوداني المشار إليه في العلاقة بين الجيش والسياسة قد عبر عن نفسه بصورة صارخة وسافرة وشاخصة جاءت ماثلة وجرى تجسيدها لدى الاقدام على القيام بالاستيلاء على سدة مقاليد الحكم والسيطرة عليها بهيمنة عسكرية طاغية ومنفردة كما حدث في العام 1958 وحتى العام 1964، ثم من العام 1969 وحتى العام 1985، ثم من العام 1989 وحتى الآن. وإذا كانت التجربة الأولى لاستيلاء القوات المسلحة على الحكم في السودان، والإطاحة بالسلطة المدنية المنتخبة على النحو الذي حدث عام 1958م، كانت قد تمت بناءً على الاستجابة لما تم التفاهم عليه في تلك الفترة بين القيادة العليا للقوات المسلحة ورئيس الوزراء المنتخب وزير الدفاع آنذاك والأمين العام لحزب الأمة في ذلك الحين الزعيم الوطني المرحوم السيد عبد الله خليل الذي كان قد تقدم بذلك الطلب للقيادة العسكرية بعد أن أخطر به، وحصل على الموافقة عليه من جانب كل من زعيم حزب الأمة وكيان الأنصار الإمام الراحل السيد عبد الرحمن المهدي وزعيم الحزب الوطني الاتحادي المرشد الختمي الراحل السيد علي الميرغني. إذا كان ذلك كذلك فإن الذي حدث على أرض الواقع الفعلي بالنسبة لتلك التجربة الأولى من الحكم العسكري في نموذجها السوداني الذي جاء بعد حوالى سنتين فقط من الحصول على الاستقلال الوطني والاحتفاء به بشكل رسمي في مطلع العام 1956م، هو أنها سرعان ما وجدت أن المسألة ذات الطابع الأكثر إلحاحاً في أولوياتها هي تلك المتعلقة بالتصدي للحرب الأهلية التي اندلعت وتفاقمت بجنوب السودان آنذاك في مناهضته للحكم الوطني المركزي. وكما هو معلوم فقد كانت هذه هي المسألة التي سعى ذلك الحكم العسكري الأول في التصدي لها بالقوة السافرة، وعندما لم يتمكن من تحقيق القدرة على احتوائها، وصارت ضاغطة عليه بحدة بالغة، وخاصة على الأصعدة الإقليمية والدولية في المستوى والمحتوى الخارجي، فضلاً عن الضغط السياسي الداخلي الذي أخذ يتطور ويتبلور حتى انتهى إلى ثورة شعبية عارمة تمكنت القوى المدنية المناهضة للحكم العسكري من القيام بها والمشاركة فيها على النحو الذي أسفر في نهاية الطواف وخاتمة المطاف عن الوصول إلى اتفاق سياسي لانهاء ذلك الحكم العسكري والعودة للحكم المدني عام 1964م.