ذكرت في مقالي السابق أن الشعب قد أصابه الوهن وقد فقد الأمل في قياداته التقليدية والتي لا تعيش معه واقعه المرير، ولم يجد ما يريده من أولئك الذين قفزوا على السلطة قبل ربع قرن من الزمان، وقد أنجب هذا الربع قرن أجيالاً تائهة، لم تعاصر القدامى ولم تجد في الجدد ما يبعث فيها الأمل..!! ولو أجرينا مسحاً اجتماعياً للشباب من سن الخامسة والعشرين وحتى سن الأربعين وهذه الفئة من الشباب تمثل الأغلبية من السكان لوجدنا أنهم لا يعرفون من تاريخ بلدهم القريب حتى من الاستقلال إلى اليوم، ناهيك عن التاريخ الغابر، وهذه مأساة وهذه الأعمار تمثل جيلاً أو أجيال نظام الإنقاذ، فمن لايعرف تاريخه فحاضره مبهم ومستقبله مظلم، فالحياة سلسلة ممتدة من التاريخ والحاضر والمستقبل وبينهم ارتباط وثيق..!! ونتيجة لهذا فإن الشباب اليوم يعيش حالة من التيه أشبه بتلك التي عاشها قوم موسى عليه السلام حين كتب المولى عز وجل عليهم التيه في الأرض أربعين عاماً وحرمهم من دخول الأرض المقدسة..!! الأجيال التي يعتمد عليها السودان تعيش حالة تيه تمثلت في البطالة وشظف العيش، أما تلك الفئات العمرية ما فوق الأربعين فتعيش حالة من الوهن تمخضت عن جهود بذلوها في ثورتين شعبيتين لم تثمرا لهم ثمرة تغير من نمط الحياة التي سعوا لتغييرها إلى الأفضل..!! وأخطر ما في الأمر تيه الشباب الذي غاب عنه الهدف، وهو ذات التيه الذي عاش فيه قوم موسى حين اختلطت عليهم العبادة، بعد أن ظهرت لهم الآيات الربانية وقد أنقذهم من فرعون وهامان وجنودهما ورغم ذلك عبدوا عجل السامري..!! هؤلاء لا يثورون إنما يتخبطون فأي ثورة تقوم على هذه الحالة لن تكون سوى ثورة غوغاء وستكون بلا قيادة، فالأحزاب التقليدية قد أصابها الضعف وتشظت، وقد فشلت في إدارة البلاد وهي مكتملة ولم تستطع أن تكمل فترة رئاسة واحدة فكيف بها الآن وهذه حالها..؟!! هذا وقد أُصيب الشعب بالخذلان حين تولى «الإسلاميون» السلطة، وقد كان الأمل عليهم حين أخفق الآخرون، ولكن الذي حدث قلب الموازين عليهم فقادوا الأمة إلى التيه كما فعل السامري..!! وسبب التيه هو غياب السياسة والتي حين تغيب يغيب الهدف وغياب السياسة يعني خطراً داهماً على الأمة، يعرضها للتمزق والتشظي والحرب، والحرب قرار سياسي بالدرجة الأولى، حين يغيب مفهوم الحوار، وغياب السياسة يعني وجود الطغيان والطغيان له مولود غير شرعي واحد اسمه الفساد. والفساد في ظل الطغيان يتحول إلى ثقافة لا يجد المفسد فيها حرجاً من فساده، بل يجد له المبررات، وأحياناً يقدم كبش فداء يتمثل في فاسد صغير فداءً لرأس الفساد!! وغياب السياسة يعاني منه الجميع بما في ذلك النظام الذي غيبها، وكما ذكرت فإن الذي يغيب السياسة يسير بلا هدف حتى يصل إلى نقطة يعجز عن تخطيها ويعجز أيضاً عن الرجعة عنها فيقف ملوماً محسوراً..!! وإذا غابت السياسة غاب معها الحوار، وغياب الحوار يدعم تلك القوى المتربصة بالسودان الذي لا يجد من السند السياسي والاقتصادي إلا بالحد الأدنى، والذين يساندونه لا يساندونه إلا بأمر من علٍ وهذا ما يهدد بوقف السند الاقتصادي الذي تعتمد عليه البلاد في ميزانيتها، وهنا سوف تتدخل القوى الخارجية كما فعلت في مصر وأكرانيا بانقلاب عسكري يكثر ضحاياه وتتواصل تداعياته فالذي خطط لانقلاب مصر هل يعجز عن ذلك في السودان، وكل الظروف مواتية لذلك من سخط شعبي ونفور من النظام وعدم رضى بالحال، خاصة أن الذي له مصلحة سوف يقوم بذلك إذا تمسك النظام بمقعده في الحكم وأخذته العزة بالإثم..!! ولايخفى علينا المؤازرة الخفية والعلنية لما حدث في مصر، كما لا يخفى علينا أيضاً ما حدث في أكرانيا حيث شارك الغرب بكلياته في الانقلاب على الحكم هناك، وما نتج عن ذلك من تفكيك لذلك البلد، ومن قبل عملوا إلى تفكيك يوغوسلافيا، والسودان موعود بكوكتيل من كل النموذجين المصري والاكراني أي تفكيك السودان كما هو مقرر إلى عدة دويلات وطمس هويته..!! وموقع السودان الجيوبولتيكي في إفريقيا يفوق في أهميته من موقع أكرانيا ويوغسلافيا في وأوربا فالقوى التي تسيطر على السودان يمكن أن تفرض هيمنتها على كل إفريقيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً والأخيرة هي الأهم فالسودان يعد من المناطق الثلاث في العالم بجانب أمريكا الشمالية واستراليا المؤهلة لمد العالم بالغذاء، ومن الغذاء يأتي التحكم سياسياً وعسكرياً وما دام النظام الحاكم لا يريد تغيير الواقع إلى واقع افضل اعتماداً على عدم قيام انتفاضة أو ثورة شعبية، فإن الآخرين على اتم الاستعداد لتغيير ذلك الواقع، فما عادت استقلالية أي بلد يؤبه لها، فهذا زمان قد ولى فالتدخل اليوم لا يتم سرياً أو بالمؤامرات لقلب نظام الحكم بل بالتدخل العسكري المباشر، إن فشلت محاولات قلب نظام الحكم من الداخل، ولنا في العراق وافغانستان ومن قبلهما فيتنام وقرينادا وباناما هذه البلدان على سبيل المثال لا الحصر غزتها الجيوش وبمباركة المجتمع الدولي!!