عقارب الساعة تشير إلى التاسعة مساءً، في ذلك اليوم المحفوظ في ذاكرتي للأبد، والشوارع مكتظة بالسيارات غير أن الراجلين يقل عددهم في ذلك الشارع الأمدرماني العريق وبالتحديد أمام الطابية المقابلة النيل، قد لفت انتباهي إصرار وإلحاح شديد على فضل تحقيق «فضل ظهر» جبري من ثلاثة أطفال في عمر الزهور أكبرهم ابن العشرة أعوام وتتوسطهم «بنية» صغيرة لا يزيد عمرها عن «6» أعوام تتوسطهم الاثنان كأنهم يخشون ذئاب الليل التي لا ترحم حتى براءة الأطفال ! وثلاثتهم توحي الملامح بأنهم فقراء غنى مفقود ! أي أن النعمة كانت بينهم إلا أن الفقر حل عليهم بدون استئذان، لم أتردد لحظة في الوقوف لهم وقد أنزلت زجاح السيارة مستفسراً «ماشين وين ياحبايب» أجابوا بصوت واحد«لي قدام يا عمنا لحدائق الملازمين أو أي حتة في طريقك» ! سمحت لهم بالركوب وكم تعجبت لمعاني وإحساس الأخوة عندما هموا بالركوب فقد حرصوا أن تركب الصغيرة بينهم وفي المقعد الأمامي انحشروا مجتمعين برغم أن المقعد الخلفي كان خالياً ! أحسست بتعب ورهق وعناء في أصواتهم وأجسامهم وكم كان ألمي عندما مددت لهم زجاجة الماء التي كانت معيي بالسيارة مددتها لهم وبدأوا يتحالفوا كل منهم يصر أن يرتوي الآخر منها قبل أخيه، قاطعتهم بمداخلة لأنهي الأمر «يلا اشربوا بالاصغر» وحمدت الله أنني كنت أحمل زجاجة الماء فقد كاد العطش أن يقضي عليهم، بدأت مستفسراً ومستغرباً وأمطرتهم بجملة من الأسئلة حتى افك حيرتي وأجد مبرراً لخروج ثلاثة أشقاء في أعمار هؤلاء في ذلك الوقت المتأخر، قلت لهم، «انتو جاين من وين؟ وساكنين وين ؟وشغالين شنو ؟واهلكم وين وبترجعوا كيف ؟ وشغالين من كم للساعة كم ؟ وبتكسبوا كم ،؟ وحاولت قبل ذلك التأكد من حقيقة روايتهم المحزنة وتأكدت من صدقهم حسب خبرتي وتحليلي، فسرد علي أكبرهم «الحسن» القصة بالكامل، «عمي نحنا من امدرمان ساكنين ال«15» شارع الشنقيطي، أبونا عيان مشلول ليه سنتين وكان عندو تكسي باعو دخل أخواتي سارة ونهى الجامعة وأمي بتبيع ايسكريم في كبري الحتانة من الصباح لحدي العصر بتجيب العيش والسلطة للغداء وأنا وأخوي أحمد ده وسلمى دي بنطلع من البيت بعد أمي تجي ونتغداء بنبيع اللبان الانت شايفنا شايلنو ده، صندوق وصندوقين في اليوم، وبنربح كل واحد فينا مرة عشرة مرة عشرين جنيه بنبيع في شارع النيل لحدي المغرب وبنجي امدرمان حدائق«الملازمين» نبيع لحدي «11» بالليل وبنرجع بالمواصلات لحدي الثورة وبندي أمي القروش عشان تشتري السكر وأكياس الايسكريم لباكر وبلملم قروش لهدوم المدارس وأمي اتعودت علي كده وما بتشفق لمن نتأخر وأبوي ما بنوم إلا نرجع ليه بالسلامة وكل يوم ببكي يقول لينا أنا عذبتكم معاي مفروض اريحكم بس ده قدري كده». كانت هذه كل إفادات ذلك الطفل البريء من واقع أُشهد الله عليه كانت تلك حقائق لواقع التمستها في رحلة الدقائق المعدودة التي اصطحبني فيها هؤلاء الأبرياء الذين قتلت فيهم الإنقاذ البراءة بفساد هؤلاء، لحظات حزينة عشتها بينهم لم أتمالك نفسي فيها من شدة الألم، مقارنات في نفسي لحال هؤلاء الأبرياء وأطفال أولئك المفسدين الذين تكتظ بهم النوادي والمسابح وصالات البلياردو والرقص!، يفرحون ويسعدون ويضحكون ويعبثون بمال المساكين والفقراء، لم يروا المعاناة أو قصص الحرمان التي يعيشها هؤلاء؟ليس عندهم غير الشقاء والتعب وموت الفرحة والبسمة، لم يسعدوا«بألعاب البلي استيش» ولا الأتاري والاي باد، محرمون من أكل البيتزا والصب سنتدوش وحتى الشاورما يشتهون تذوقها، وأكثر ما هزني في نهاية تلك الرحلة بعد أن أقنعتهم بأن يذهبوا إلى بيوتهم فالوقت قارب من الساعة الحادية عشرة وقد اجتهدت في أن أدس في أيديهم شيئاً مما كانوا يسعون لجمعه! وقد أعجبت بإصراهم على الرفض مكتفين بفضل الظهر فقط، وزاد إعجابي بهم عندما التفت أكبرهم للصغيرة «سلمى، أديه باكو لبان سريع من العندك الفاتح ده»، شكرته وحاولت إقناعه بأنني لا أحب أكل اللبان حرصاً مني على عدم خسارتهم فالتفت إلي قائلاً «نحن جاملناك يا حاج وسمعنا كلامك انت جاملنا إن شاء الله تشيلوا لوليداتك» وقد كانت استجابتي لطلبهم العظيم بحجم فرحتي بوعيهم، استودعتهم الله وانطلقت إلى داري ولكني أبحث في نفسي عن سعادة أو راحة لنفسي المخنوقة، فأدرت مؤشر الراديو فوجدت المذيع ينعي في أموات فزاد حزني واعتصرني الألم لهؤلاء الصغار، وعن حال الكثيرين أمثالهم، كيف تعيش تلك الأسر وأين جامعو الزكاة وكافلو الأيتام؟ هل كما نسمع أن تلك الجهات قد طالها الفساد أيضاً والناس تتحدث عن المحسوبية في توجيه بنود صرفها؟ لم أنم تلك الليلة الحزينة بتفاصيل ما عا يشت ولم أغفر لهؤلاء المجرمين الذين أجبروا أمثال «الحسن» وإخوته الأبرياء على أن يسلكوا هذا الطريق الوعر المرهق، ومثل حال هؤلاء نجده بنفس تفاصيل المعاناة يومياً بيننا، لم نترك لتلك الأم الصابرة غير خيار الأمرَّ من المر فقسوة الحياة جعلتها تضع في قلبها صخرة على مصير هؤلاء، وما يمكن أن يعانوه ويتعرضوا له في ظلمات تلك المدينة التي لا ترحم، اخرجوا يا هؤلاء جوبوا الشوارع اكتشفوا الأبرياء الذين اصطادتهم تماسيح السوء، تحروا عن صغيرات السن اللائي يتعرضن يومياً لحادث اعتداء جنسي بالتراضي مدفوع القيمة مقدماً، عندما أجبرتهم الظروف وسلكوا هذا الدرب بلا وعي وحتى لا نجد «أخت الحسن» ضحية ذلك، ابحثوا وستجدون في تلك الشوارع الساقطات بفعل فاعل، فهناك من يروجن لتلك السلع المغرية لا يهم أن يعرضوها لمن ما يهم أنها تستطيع أن تكسب ما يمكنها أن تجاري الأخريات في اللبس والبهرجة، وإن كان ما اضطر له «الحسن» وأخوانه بأن يسعوا بكل السبل لمساعدة الأب المشلول والأم التي تلازمه فكيف يكون حال من هم أكبر وأصلح لصناعة الموت بالفساد الأخلاقي فالشارع تكتسب منه كل الصفات الرذيلة والفواحش، ولعلنا ما كنا نرضى إن وصفونا ب«أولاد الشوارع» لأن الدار هي المأمن والسكن من السكينة والاطمئنان، فنتمنى أن لا يمر حال هؤلاء الأبرياء كغيره من المواضيع الكثيرة. فالقضية مربوطة ببعضها البعض الفساد هو الشر الذي أدى للضيق الاقتصادي والفساد هو الذي يمحق البركة وينزل الغضب السماوي، لذلك نتعشم في أن يتقي المفسدون الله في حق هؤلاء الصغار، بالرجوع للفضيلة والحق وأن يتحللوا من تلك الثروات التي اكتنزوها بالباطل، لا نخاطب المكتشفين بل نتحدث عن الذين لم ينكشف أمرهم ونحن نعرفهم، فخير لكم أن تتحللوا وتستفيدوا من فقه الإنقاذ وتشريع من سبقوكم، وإن كنتم تخشون الفضائح فمبدأ التحلل هنا يصرف عنكم البلاء، وهذه بمثابة دعوة ونفرة أتمنى أن يقوم بها كل من فسد في المال العام ولو كان «بويت» في الثورة العاشرة وساعتها يمكن أن تختفى للأبد تلك الظواهر المؤلمة وتنمحي معاناه هؤلاء الأبرياء. وأنا أثق في أن مال المفسدين بعد التحلل بالطريقة التي ذكرتها، سيكفي كل الأسر السودانية التي تعيش حرماناً حقيقياً، لأنه كثير ووفير. ساعتها ستعود مراكب فرحة الأطفال ببراءتهم لبر الأمان.