أودى الرّدى بحبيبنا، وأخينا، وصفيّنا، وخليلنا، وأصدقنا لهجة، وأحسننا مودة، فقيد المجتمع القضائي، والحركة الإسلاميّة، وأهل السودان كافة، العالم الرّباني، والقاضي العدل، والفقيه الحاذق، الدكتور إبراهيم أحمد عثمان. لقد فجعت بخبر موت إبراهيم، وفوجئت به، وما كان لي أن أُفاجأ بخبر الموت لولا الغفلة، وطول الأمل، وكراهية الموت، والفرار ممّا لا مفرّ منه، فالمنايا قلائد الأعناق، بل هي أقرب من القلادة إلى العنق. وما لنا نغفل عن الموت وقد صرنا إلى معترك المنايا، أي بين الستين والسبعين، حيث تكافح الأرواح، وتصطدم الآمال، ويكثر الذّاهبون، ويقل المجاوزون! إنّها الأمانيّ بضائع الموتى. لقد أساء صحبة الموت من عدّ غداً من أجله، كما جاء في الأثر، فالموت للإنسان كالعشير المحالم، والرفيق الملازم، فمن اغترّ بطول أمله، واتساع مهله، كمن أساء صحبة الرفيق المصاحب، والخليط المقارب. وما لنا نكره الموت، ونفرّ منه، وهو ريحانة المؤمن، يستروح إليه من كروب الدّنيا وهمومها، وروعاتها وخطوبها،، كما يستروح الإنسان إلى طيّب المشمومات. إنه ضعف الثقة فيما عند الله، والتعلق بالآمال الزائفة. لقد عرفت إبراهيم منذ أكثر من أربعين عاماً أو يزيد، وظلت الأيام تجمعنا وتفرّقنا، فتراه حين تلقاه ثابتاً على ودّه القديم ما بدلته الأيام، ولاغيرته السنون، يلقاك بوجه طلق، وسن ضحوك، وهو رغم علمه، والدرجات الرفيعة التي يحملها عاش فقيراً، ومات فقيراً، فهو يسكن في بيت صغير متواضع البناء، إذا رأيته ما صدقت أنه يأوي قاضي المحكمة العليا وأسرته، وقد ظل إبراهيم يحمل حقيبته ويدرس في الجامعات في وقت فراغه، حتى يقابل تكاليف الحياة، التي صرعت كثيراً من الرجال، فمُدّت الأيدي منهم إلى المال الحرام، إلا هذا الفارس المؤمن الزاهد، الذي عاش على الكفاف حتى لاقى ربّه، وإنّ له للحسنى عند ربّه، إنْ شاء الله، ولانزكي على الله أحدا. لقد وصفت إبراهيم في صدر هذا المقال بأنه قاض عدل، وما قلت ذلك حتى اختبرته، فقد كنت أجلس معه يوماً في بيته، وحكيت له قصة ابن خالي الذي اشترى بيتاً من أحد البنوك قبل عشرة أعوام، ولكن صاحب البيت لم يخل البيت حتى هذا اليوم، واسترسلت في سرد القصّة، وهو يستمع إلي بصبر القاضي، ولا يقاطعني حتى إذا انتهيت من القصّة، وطلبت منه الرأي، سألني: وهل هذه القضية أمام القاضي؟ قلت نعم. قال لا رأي عندي، ولا أعين خصماً على خصم، برأي ولا بمشورة. لله درُّك يا إبراهيم، ما أنزهك وما أفقهك! ليس للفتى من حمام الموت واق، ولكننا نعزي بعضنا بعضا ونذكر للمصاب ما يسليه ويهوّن عليه مصيبته، والتعزية من آداب الإسلام، فلم يؤثر عن أهل الجاهلية أنهم كانوا يعزون بعضهم بعضا، ولكن أُثر عنهم الرثاء، الذي كان بكاء على الميّت بالعبارات المشجية، وتحريضاً على الأخذ بثأره، وقد كثرت في الشعر الجاهلي، وهو أبرز فنونه، بل إنه ليتصدرها من حيث صدق التجربة، وحرارة التعبير، ودقة التصوير. كان إبراهيم نحيلاً، رقيق الحاشية، فصيحاً، مبيناً، عالماً بالشرع، صاحب رأي وفتوى، ذكياً، فطناً، قُبل في كلية الطب بجامعة الخرطوم، ولكن الجامعة كانت تشترط مستوى معيناً في اللغة الإنجليزيّة لم يبلغه، فعلّقت قبوله حتى يستوفي هذا الشرط، فانصرف عن دراسة الطب، ويمم شطر جامعة أم درمان الإسلامية ليدرس الشريعة، وقد بارك الله له في هذا المسعى، وبرّز في علوم الشرع حتّى بزّ الذين قضوا زهرة شبابهم في المعاهد الدينية، يحفظون المتون، والشروح، والحواشي، ويزاحمون العلماء بالركب. لقد كان لي في خبر وفاة إبراهيم، وهو ساجد، عزاء أيّما عزاء، وإني لأرجو أن تكون هذي علامة القبول، وعبرة لنا، وتذكيراً بالمحافظة على الصلاة في الإقامة والسفر، فإن المرء لا يدري متى يحين مصرعه، وأين تلاقيه منيته؟ للدكتور خضر هارون، والدكتور حسن الشايقي، وجميع إخوانه وزملائه، أقدم عزائي، وأوصي نفسي وإيّاهم بأن نكثر من الدعاء لإبراهيم، وأن نتواصى على عمل نلاقي به ربنا، عسى أن يرحمنا، فالمغرور من غرته الأماني، وصرفته عن تذكر أهوال يوم المطلع. هذا وإن كان لي أن أُعزي أُسرة إبراهيم، وأهله، وأهل السودان كافة، فأُعزيهم بعزاء عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، للأشعث بن قيس في ابنه، إذ قال له :«إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فلله خلف من كل هالك، وأعلم أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور، سرك وهو بلاء وفتنة، وحزنك وهو ثواب ورحمة». وذكر ذلك أبو تمّام في شعره، فقال: وقال عليّ في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم أتصبر للبلوى عزاء وخشية فتؤجر أو تسلو سلوّ البهائم ألا رحم الله إبراهيم، وأنزله منازل العلماء الربانيين، مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.