دار لغط كثيف ولفترة طويلة حول ما ظلت تنشره وتنقله الصحف ووسائل الإعلام عن الفساد ككل بمختلف مسمياته، وكان ذاك الخلاف بين الذين قلوبهم ووجوهم مع السلطة والحزب الحاكم وبين من يراقبون عن كثب لنشاطات بعض منتسبي ذلك الحزب من واقع العداء الكامن، حتى قاد بعضهم إلى ما يعرف بالمعارضة بغض النظر عن درجة الرضا عنها هنا وهناك، ولكن يبقى الدور الكبير الذي لعبه الإعلام في التصدي لكل قضايا الفساد والإذعان في كشفها جعل منه تختاً يتلقى العديد من الضربات جراء محاولته كشف المفسدين للرأي العام. «الإنتباهة» في هذا اللقاء التقت الخبير في علم الجريمة والمستشار في جرائم المال والجريمة المنظمة وخبير الوثائق المستفهمة وغيرها من التخصصات ذات صلة بعلم الجريمة، الدكتور ياسر محمد علي عنقال مدير مركز أبحاث الجريمة، ليفصح عن كثير من الملتبسات حول الفساد وأشكاله وغيرها من القضايا. فإلى ما بين سطور اللقاء: الآن صار الحديث عن الفساد هو المحور الأساس في الساحة السودانية، ومع ذلك فقد أجاز مجلس الوزراء مشروع قانون لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب مؤخراًَ كيف تقرأ ذلك من منطلق إنك خبير بعلم الجريمة؟ في الحقيقة نحن ندير مركز أبحاث لعلم الجريمة ويعمل على مكافحة الجرائم التي يمكن أن تقوم على المؤسسات والمجتمع والأفراد خلال اليوم عبر تثقيف المجتمع وأخذه للمشاركة، وذلك لأن المجتمع من أهم أعمدة العدالة في الدولة. والجريمة هي نتيجة طبيعية لأنشطة هذا المجتمع ولذلك كلما كانت هناك أنشطة لا بد من أن تكون هناك إفرازات سالبة تشتمل على الخروقات أو التجاوزات والمخالفات أو الجرائم. ولذلك يأتي هذا القانون لمكافحة جرائم غسل الأموال في سماته العامة قانون دولي ومن أهم آلياته تسمى وحدة التحريات المالية التي من المفترض أن تعمل على إلمام المواطن أو المجتمع بالآثار السالبة لجرائم غسل الأموال، وكيف يمكن له المساهمة في مسائل الوقاية والكشف وتقديم الجناة للعدالة. ولهذه الأسباب مجتمعة نعتقد أن هذا القانون سيسهم بدور كبير في المكافحة وانحسار نسب ارتكاب الجريمة. ماذا بشأن القانون السابق. ألم يكن فاعلاً، ولماذا لم يحد من الجرائم المنتشرة؟ السودان دولة حديثة عهد في مجال مكافحة جرائم غسيل الأموال، وحتى الآليات التي وجدت هي آليات حديثة التكوين، فهناك وحدة التحريات المالية واللجنة الإدارية لمكافحة غسيل الأموال في بنك السودان كلها حديثة التكوين، إضافة لعدم الإلمام بعملية غسيل الأموال وكل هذه الأسباب حالت دون التفعيل الكامل، وبالتالي الحد من ظاهرة غسل الأموال، وموضوع الفعالية يرجع للآليات وينعكس على المؤسسات والمواطن وإلمامه بغسل الأموال. جريمة غسل الأموال في حد ذاتها ليست حديثة فما الجدوى من استحداث قانون لها في العام 2014؟ عندما نتحدث عن مكافحة إنزال ما يسمى ب«40 توصية للجنة الفاتف» وهي فريق العمل المالي الدولي المعني بتقييم جهود الدول في مجال مكافحة الجريمة المالية لأرض الواقع، وهذه الأربعين توصية هي الآليات الكلية في مجال المكافحة ولكنها تتغير على حسب المستجدات في مجال المكافحة ولذلك تختلف الدول في إنزال هذه التوصيات الأربعين كل على حسب القوانين والتشريعات السائدة إضافة للأحوال العامة من الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يساعد حتماً على إنزال هذه التوصيات، وعطفاً على ذلك فإن ما يحدث في مكتب الوالي يعتبر غسيل أموال. ما هي معوقات مكافحة جرائم غسل الأموال والجرائم الشبيهة في السودان؟ في الحقيقة جرائم غسل الأموال والفساد المالي والإداري هي تسمى جرائم أصحاب الياقات البيضاء، أي أن الجرائم التي ترتكب من قبل الموظف العام، وهذه الجرائم تأتي مكافحتها في أربعة أطر أهمها السلوك المهني الذي يفترض أن يكون جزءاً من المنهج الدراسي ونعني به المبادئ المهنية والقيم الأخلاقية التي تحكم المهنة المعنية، فلا بد للموظف أن يعمل وفق الأخلاقيات المعنية التي يجب أن تكون جزءاً أصيلاً من المنهج الدراسي في الدولة. ثاني هذه الأطر هي التشهير «القسوة في مواجهة أولئك الجناة»، ونعنى بالتشهير هنا مصداقاً لقوله تعالى: «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين». والقصد من التشهير هنا ليست عقوبة الجلد وإنما المقصود وجود هذه الجماعة وحضورها في عقاب وإقامة الحد على هؤلاء الجناة، وهذا ما نراه اليوم في الدول الغربية غير المسلمة، فمن منا لم ير الرئيس الأمريكي يحاكم علناً عبر شاشات التلفاز، ومن منا لم ير الرئيس الفرنسي جاك شيراك يحاكم علناً وأخيراً أولمرت اليهودي حكم عليه بالسجن. ماذا يعني لكم كمختصين المخالفات بمهام مسؤول دولة أو استغلال نفوذه من خلال موظفيه؟ عندما نتحدث عن الفساد الإداري، نتحدث عن استغلال الموظف للمهنة أو الوظيفة للمنفعة الشخصية وذلك عبر سوء الاستخدام أو إساءة التطبيق المتعمد للأصول وموارد المؤسسة، ونعنى هنا تحديداً أن الفساد الإداري ما هو إلا إساءة لتطبيق أنظمة الرقابة الداخلية المتمثلة في اللوائح والضوابط والقوانين المنظمة لعمل المؤسسة، ولذلك فإن ما نراه الآن من المخالفات التي أقعدت مؤسساتنا والتي تناولتموها عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة الأيام الماضية كثيراً ما هي إلا نتيجة للالتفاف والتجاوز لهذه الضوابط والقوانين التي تقع مسؤولية تفعيلها مبدئياً على الإدارات العليا بالمؤسسة. وكيف تنظر لما يسمونها من مخالفات الآن في مجال الفساد المالي والإداري؟ في الحقيقة ليس هناك ما يسمى ب«المخالفات» يا أخي، وإنما هي جرائم، لأنها اعتداء أو لأنها تجيءُ في إطار الاعتداءات، فكيف يمكن لنا تسمية تزوير شهادات البحث للحصول على قرض أو تمويل من مصرف ما بمخالفات الجهاز المصرفي، حيث أن الاعتداء تم مع سبق الإصرار والترصد على الحق العام والخاص، أو كيف يمكن لنا أن نسمي الذي يعتدي «الموظف» الذي يقوم بتزوير مستندات رسمية للحصول على قطعة أرض خاصة إذا كان هنالك تواطؤ من داخل مصلحة الأراضي أو مكاتبها وهي الجهة المسؤولة عن تنظيم وتقنين وتخطيط وتوزيع الأراضي. ما الذي يمكن أن نستنبطه من ذلك وهناك حالات كثيرة لاختلاسات وتلاعب بالمال العام وكيف تفسرون ذلك وفقاً لعلم الجريمة؟ تُعرف الاختلاسات في مجال علم الجريمة بأنها قيام الموظف بتحويل الأصول لنقدية والتصرف في هذه النقدية، أما السرقة فهي الأخذ الفعلي للأشياء المحروزة أو المُؤمنة كما في الشريعة، فإن إيقاع أحكام القطع لا يكون إلا في الأشياء المحروزة. وما تم من مخالفات مالية في مؤسساتنا أو بعضها ما هي إلا سرقات لأن كل الأموال التي تم الاعتداء عليها كانت ممتلكات لهذه المؤسسات، وبالتالي هي مُؤمنة في حساباتها أو مخازنها وهي حتى شرط من شروط إقامة حد السرقة وفقاً للقانون والشريعة وإسقاطاً على الواقع الآن. إذاً، ما هي الآثار المترتبة على جرائم غسل الأموال عبر الفساد المالي على الدولة؟ جرائم غسل الأموال تعتبر مشكلة حقيقية، وذلك لأن هذه العائدات أو المتحصلات تمكن هؤلاء الجناة من زعزعة الدولة والظهور في المجتمع وكأنهم أناس شرفاء، بل هذه المتحصلات تعمل على تقويض النظام المالي للدولة ولذلك اعتبرت من مهددات الأمن القومي نظراً لما تخلفه من آثار سالبة اجتماعية واقتصادية وأمنية تتمثل في انتشار الفقر والعطالة نسبة لضعف الاستثمار، وذلك لأن هذه الأموال لا تستثمر استثماراً طبيعياً، وإنما كل الذي يقوم هؤلاء الجناة به من استثمارات ما هي إلا استثمارات وهمية من شراء العقارات وتجارة السيارات الذين لم يكن لهم تاريخ في هذه التجارة إضافة لضعف قيمة العملة الوطنية وانتشار ظواهر الاتجار بالوظيفة للموظف العام والتي تجيء تحت مظلتها الرشوة وتغذية حسابات المسؤولين والتغاضي عن الإبلاغ بالمعاملات المشبوهة. ومن الآثار السالبة أيضاً ما نراه الآن من الاتجار بالسلاح والمخدرات وتهريب وتجارة البشر والاختطاف من أجل الفدية والممارسات السيئة كالدعارة. وفقاً لما ذكرته عن تلك المخالفات وكيف أنها أصبحت جرائم بل ومن الكبائر، ربما تشير بعض الدواعي إلى وجود محفزات ما لارتكابها، فما هي الأسباب التي تؤدي إلى التورط في مثل هذه الجرائم؟ الفساد في حد ذاته واحدة من الأسباب لارتكاب جرائم غسل الأموال وغيرها من الجرائم الشبيهة التي تندرج تحتها، وعندما تعرف جريمة غسيل الأموال فهي تلك العائدات التي يعتقد أنها عائدات لأنشطة إجرامية محاولة إصباغها صفة الشرعية وإدخالها للنظام المالي القانوني في الدولة، وهذه الأنشطة الإجرامية هي أي نشاط غير قانوني منصوص بالقانون الجنائي للدولة نتجت عنه أموال كالاتجار بالسلاح أو المخدرات أو عائدات السرقات والاختلاسات أو إفشاء أسرار الدولة أو الفتن والحروبات الأهلية أو التهرب الضريبي أو الاتجار بالأعضاء البشرية وتهريب البشر واختطاف الأطفال، وكل هذه هي نماذج لجرائم، فمتى كانت هناك محاولة للتعامل بمتحصلاتها أي عائداتها، غسل أموال لأن الغرض الحقيقي من وراء هذه التعاملات هو إخفاء المصدر الحقيقي لهذه الأموال وبالتالي إصباغها صفة الشرعية، أي أنها ترى بصورة عامة كأنها أموال نظيفة. وهنا إجابة عن سوالك تجد أن من أسباب غسل الأموال هي هذه الجرائم ولذلك تسمى جرائم غسل الأموال بجرائم لاحقة لجرائم سابقة أي أن غاسل الأموال لا بد أن يكون قد ارتكب جريمة نتجت عنها أموال وبالتالي حاول التعامل بهذه الأموال. كثر الحديث عن الاعتداء على المال العام فهل المال العام هو ما يؤخذ من خزينة الدولة فحسب؟ الحديث عن المال العام هو الحديث عن كل ثروات ظاهر الأرض وباطنها وكل ممتلكات الدولة من أصول ثابتة ومتحركة، فبالتالي المال العام ليس كما يعتقده الكثير من الناس أنه تلك الأموال المسلوبة أو المنهوبة من المؤسسات، ولكني أقول إن الطرق العامة «الظلط» وأعمدة الكهرباء كلها مال عام وإساءة استخدامها تعتبر فساداً، أيضاً زمن الدوام في المؤسسة يعتبر مالاً عاماً وإهدار هذا الزمن من قبل الموظف العام يعتبر فساداً وهذا قليل من النماذج لكثير من صور المال العام الذي يتعرض للفساد. حاويات المخدرات التي تم القبض عليها في بورتسودان هل هي عمليات غسيل أموال؟ كما أسلفنا الذكر أن واحدة من العائدات القذرة هي عائدات الاتجار بالمخدرات، وحتى الاتجار نفسه يعتبر واحداً من الآثار السالبة اجتماعياً واقتصادياً لعملية غسيل الأموال، فإذا كانت هناك كميات مقدرة دخلت البلد فهي حينئذِ جريمة مركبة أولاً وجريمة عابرة للحدود وعابرة للوطنية وجريمة غسيل أموال، لأن الجرائم العابرة للحدود هي التي تضم دولتين فأكثر وأن السلعة المهربة من دولة لدولة يجب أن تكون مجرمة ومحرمة لكلا الدولتين، فلا شك أن الاتجار بالمخدرات جريمة تكافح بواسطة المجتمع الدولي، فهي إذاً محرمة دولياً، وعليه فالتعامل في مثل هذه الجرائم المنظمة أو عبر الوطنية هي جرائم منظمة وهي شبكة من الناس يتشكلون في شكل هرمي ولكل منهم دور يقوم به، وكما أن هناك مرسلاً ومستقبلاً وما بينهما وسطاء.