مشروعية الرد على المخالف من المسائل الواضحة التي لا تخفي، ولكن كتوطئة لذكر أبرز معالم منهج السلف في ذلك فإني أشير إلى أدلة مشروعية ذلك من الكتاب والسنة. إذ منهج السلف يقوم على الكتاب والسنة وفهمهما بفهم الصحابة والتابعين وتابعيهم ، في كل الأمور ومن ذلك هذا الأصل العظيم.. فإن القرآن الكريم وردت فيه كثير من الآيات في تصحيح أقوال وأفعال ومعتقدات، وإبطال كثير من العقائد على اختلاف، وذلك هو منهج الأنبياء عليهم صلوات الله وتسليمه. قال الله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ». فالبيان بما يتضمنه من توضيح الحق ورد الباطل، وتمييز الحق عن الباطل هو مما جاءت ببيانه آيات الله تعالى وبعث به الأنبياء.. وقال الله تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ «63» إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ». وقال الله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «111» بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ «112». وهنا الرد بالمطالبة بالأدلة والبراهين التي يثبتون بها أقوالهم ودعاويهم الكاذبة.. وفي صحيح البخاري أنه لما كان يوم حنين آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا أَعْطَى الأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ مَا أُرِيدَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهُ اللهِ فَلما أخبر النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ. فلم يسكت عليه الصلاة والسلام وإنما ردّ على تلك المقالة الآثمة، وذكر ما كان من صبر موسى عليه السلام الذي آذاه بنو إسرائيل بتعنتهم وعنادهم ولؤمهم وكفرهم وحيلهم وتلبيسهم للحق بالباطل وقولهم على الله الكذب وافترائهم عليه.. ولم يرد النبي عليه الصلاة والسلام على المخالف فحسب بل حذّر منهم ومن طرقهم وإحداثهم، فالأحاديث وردت كثيرة في الخوارج وصفاتهم وأفعالهم وشرهم.. وحذر من المبتدعة والمحرفين للشريعة والمشرعين العقائد والبدع والأحكام.. ومن ذلك تحذيره عليه الصلاة والسلام من ذي الخويصرة رأس الخوارج والحديث في الصحيحين. وقد قال عليه الصلاة والسلام وهو يحث على الرد على المخطئين والمحرّفين لدين الله، والمأولين لآيات الله وأحاديثه: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» . رواه البيهقي وصححه الألباني.. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: «وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ الدِّينُ بِالتَّبْدِيلِ تَارَةً وَبِالنَّسْخِ أُخْرَى وَهَذَا الدِّينُ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا لَكِنْ يَكُونُ فِيهِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَا يُلَبَّسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ خَلَفًا عَنْ الرُّسُلِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِّينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ فَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». وقد ردّ عليه الصلاة والسلام على من أخطأ وصحّح خطأه في مواقف كثيرة منها: عن سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: «رَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا». ولما رأى من فعل بعض من يخطئ في رمي الجمار في حجة الوداع: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ: غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ وَيَقُولُ أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ، فَارْمُوا ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ. رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وأمثلة ذلك كثيرة جداً.. ولا أظن أنها تخفى على جاهل فضلاً عن عالم. وعدّ علماء الإسلام الرد على المخطئين عموماً والمخالفين للشريعة وخاصة أهل البدع من «الجهاد في سبيل الله».. فالجهاد منه جهاد اللسان والبيان ومنه جهاد السنان.. ومنه جهاد الشيطان.. وأساس الثلاثة: جهاد النفس. قال ابن تيمية: «فَالرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ حَتَّى كَانَ » يَحْيَى بْنُ يَحْيَى» يَقُولُ: «الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ» مجموع الفتاوى. وفي بيان أهمية وضرورة الرد على المخالف ينقل ابن تيمية هذا النقل المهم عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فيقول: «وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد سألت مالكا والثورى والليث بن سعد أظنه والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ فقالوا بين أمره، وقال بعضهم لأحمد بن حنبل انه يثقل على أن أقول فلانا كذا وفلانا كذا فقال إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب اليك أو يتكلم في أهل البدع، فقال إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء». إلى أن قال رحمه الله وهو يبين أن المخطئ قد يكون رجلاً فاضلاً وله اجتهاد لكن خطأه ذاع وانتشر فقال: «ولهذا وجب بيان حال من يغلط فى الحديث والرواية ومن يغلط فى الرأى والفتيا ومن يغلط فى الزهد والعبادة وان كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده فبيان القول والعمل الذى دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله». وفي نفس هذا المعنى قال ابن الجوزي عن الإمام أحمد رحمهما الله: «وقد كان الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل لشدة تمسكه بالسنّة ونهيه عن البدعة يتكلم في جماعة من الأخيار إذا صدر منهم ما يخالف السنّة، وكلامه ذلك محمول على النصيحة للدين». وهذا منهج الصحابة الكرام وهم أعمق هذه الأمة علماً، وسيرتهم في ذلك أشهر من أن تذكر فقد ناظروا الخوارج المكفرين بالباطل وردوا على القدرية وضللوا الشيعة الروافض وغيرهم.. قال ابن القيم رحمه الله: «وقد كان ابن عباس شديداً على القدريّة، وكذلك الصحابة». وهذا الأصل من أصول الإسلام «الرد على المخالفين».. يشنشن عليه بعض الجهلة إذ يقولون إنه من «الغيبة» وذكر المسلمين بالسوء.. فلنقرأ ما ذكره حافظ المشرق الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية «ص39» حيث قال: «ففي قول النبي صلى الله عليه و سلم للرجل بئس رجل العشيرة دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة؛ إذ لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه و سلم... ثم قال: في هذا الخبر دلالة على إن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لتجتنب الرواية عنهم وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم.. ».ا.ه والبعض يشنشن على هذا الأصل بأن «الجرح والتعديل» خاص برواة الأحاديث، وهو جهل كبير، إذ لا فرق بين من ضرر المجروحين في رواية الحديث وبين الضرر المجروحين في الكلام في مسائل الشريعة والدين.. وتأمل قول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي كما في كتابه الفرق بين النصيحة والتعيير إذ يقول: «ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأوَّلَ شيئًا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا» ا.ه وهذه المساواة في أنواع المجروحين يبين الحافظ ابن رجب أنها مما أجمع عليه العلماء! ومما يشنشن به على هذا الأصل من أصول الإسلام أن بعضهم يقول اصرفوا الجهود في الرد على الليبراليين والعلمانيين واتركوا ودعوا من ينتسبون لنصرة الدين وغضوا الطرف عن أخطائهم فيقال لهم، وقد يكون ضرر هؤلاء أعظم من ضرر أولئك لأن العلمانيين والملاحدة والليبراليين مكشوف حالهم وأمرهم للعامة وسائر الناس. ولنقف مع هؤلاء العلماء وهم يردون على هذه الشنشنة : قول ابن القيم رحمه الله تعالى: «واشتد نكير السلف والأئمة للبدعة، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك بما لم يبالغوا في إنكار الفواحش والظلم والعدوان، إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد». مدراج السالكين. وقال ابن الجوزي رحمه الله: «قال أبو الوفاء علي بن عقيل الفقيه: قال شيخنا أبو الفضل الهمذاني: مبتدعة الإسلام و الواضعون للحديث أشد من الملحدين، لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، و هؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في إفساد أحواله، و الملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له» كتاب الموضوعات. هذا أصل من أصول الإسلام العظيمة وجب الاعتراف به والاستسلام له بل الموفق المسدد من ينتسب إليه «بضوابطه الشرعية».. وإنه من أعظم القربات وطرق كسب الحسنات بل هو من الجهاد في سبيل الله.