كما ذكرنا أمس فإن الدلالة البعيدة المدى من حيث ما تنطوي عليه وتشير إليه في إقدام النخبة الحاكمة الراهنة على إجراء تعديلات مقترحة من جانبها على قانون الانتخابات العامة في هذه المرحلة من عملية الحوار الوطني المتعثرة، إنما تتمثل كما نرى في كشفها عن الرؤية التي تنطلق منها هذه النخبة المسيطرة على سدة مقاليدة السلطة القائمة بهيمنة منفردة منذ الاستيلاء عليها بانقلاب ثوري مدني وعسكرية قامت به في العام 1989م وحتى الآن. وبناء على هذا فإن القراءة الصائبة فيما يتعلق بالنظر إلى العمق والبعد الحقيقي والجذري والجوهري والمحوري والأساسي والرئيسي لما يجري بشأن الحوار الوطني المطروح للتداول المفتوح منذ الشروع في الدعوة إليه في يناير الماضي، ثم في أبريل المنصرم، وحتى الوصول به لما يدور حوله في الوقت الحالي، وذلك من حيث ما جرى من احتجاز قانوني وأمني لزعيم حزب الأمة وكيان الأنصار رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي، ثم الإفراج عنه بتسوية لم تتضح الأبعاد الكامنة فيها كاملة حتى هذه اللحظة، بينما لا يزال رئيس حزب المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ رهن الاحتجاز القانوني والأمني لأسباب مماثلة لما سبق أن حدث وأدى بالمهدي للذي تعرض له أو أودى به فيه.. إنما هي تلك.. أي القراءة.. التي تأتي مستوعبة لمجمل التجربة المتعلقة بالممارسة الجارية للحوار الوطني من جانب النخبة الحاكمة، وما تقوم به من محاولات متلاحقة لإثبات القدرة على توظيف هذه التجربة وأنماطها كنماذج مغايرة وجديدة في الممارسة السياسية المبتكرة والمبدعة، والسعي للاستفادة منها في العمل المستمر والمتواصل من أجل الارتقاء بالتجربة وتطويرها وترسيخها وتجذيرها وتأصيلها وحمايتها أو تمكينها والمحافظة عليها على ضوء الخبرة المكتسبة والعبر والدروس المستخلصة والنتائج التي نجحت في تحقيقها وتلك التي فشلت فيها وأخفقت في الوصول إليها أو الحصول عليها. وتجدر الإشارة بناء على هذا أيضاً إلى أن النخبة الحاكمة الراهنة كانت قد اتجهت للشروع في تطبيق فوري للنزوع إلى الحوار الوطني المفتوح والهادف لإتاحة الفرصة السانحة وتهيئة الأجواء الممهدة والسبل الساعية والمفضية والرامية لاستقطاب واستيعاب أوسع وأكبر وأعمق مشاركة ومساهمة ممكنة وفاعلة ومتفاعلة من النخبة الوطنية الممثلة لكل القوى والتيارات السياسية والفئوية والمهنية والعلمية والعملية المتخصصة والمؤهلة والمتمرسة بمختلف اتجاهاتها ودرجاتها المعبرة عنها من النواحي والمجالات الفكرية والآيديولوجية وغيرها من أنواع الانتماءات الأخرى المهمة وذات الصلة من حيث وزنها وثقلها وخطورتها وحساسيتها. وفي سياق هذا الإطار وكما هو معلوم، فقد عقدت النخبة الحاكمة الراهنة والمؤسسة للسلطة القائمة منذ بداية وصولها إلى سدة مقاليد الحكم في العام 1989، وفي تلك الفترة والمرحلة الأولى للتجربة المستمرة والمتواصلة والمتطورة منذ ذلك الحين عدة مؤتمرات للحوار الوطني الذي وجد استجابة واسعة ولافتة آنذاك فيما يتعلق بالحرص على المساهمة والمشاركة فيه، والتفاعل معه، والانفعال به، والتعويل عليه كبديل أمثل وأفضل وأجدى وأنفع في العمل المتمادي والمتفاني في سبيل المصلحة الوطنية ومن أجل التوعية بها وترسيخها وتجسيدها وتجذيرها وتأصيلها وتنزيلها وتطبيقها في حقائق وإنجازات بارزة وشاخصة وماثلة وداحضة لما سبقها من فوضى وهرجلة في الممارسة السياسية القاصرة والفاشلة والخاسرة والمحبطة والمفتقرة للجدية والموضوعية والمصداقية التي لم تكن تتعدى كونها مجرد تجاوزات وانتهاكات صارخة ومريرة ولاذعة ومعبرة عن منطلقات وتطلعات حزبية وشخصية ونخبوية وجهوية عبثية وعدمية خائبة وساذجة ومهلكة ومدمرة.