في معرض تناولنا لموقف تحالف أحزاب المعارضة الرافض للحوار قلنا في خاتمة الحلقة السابقة، إن الجميع يؤمن بوجود أزمة وطنية شاملة وأن طريق الخروج منها هو التغيير على اختلاف في طبيعة ومدى هذا التغيير بالتأكيد، وذهبنا إلى القول إن تغييراً كهذا لن يكون إلا بآليات تملك القدرة على تحريك الوضع بصورة واسعة وعميقة بحيث ينتظم هذا الحراك كل مفاعلات الأزمة. وقلنا إن هذه الآليات مصدر الحركة هي ثلاث: البندقية أي القوة والعمل الجماهيري وثالثها هو الحوار أي التعاطي السلمي مع كل جوانب الأزمة بين كل الفرقاء. وسنناقش هنا هذه الآليات لنر أن هناك ثمة شيئاً آخر غير الحوار يمكن أن تتعكز أحزاب المعارضة عكازته في مناجزتها السياسية للإنقاذ بغرض تفكيكها حسب قولها. أما البندقية فلم يثبت تاريخياً أنها الوسيلة الأنجع لفرض التغيير الشامل فهي أسيرة محددات كثيرة، أولها مخاطر الاحتراب الداخلي بمغارمها وتداعياتها الكارثية إنسانيا واقتصاديا، مما يدفع بالأوضاع إلى مستوى يصعب معه استعادة الخلاف السياسي إلى خط الابتداء، كما أن طاقة الحركة والتغيير التي تختزنها البندقية تظل غير كافية لإحداث تغيير شامل وقصارى ما يمكن أن تنجزه هو حمل فرقاء السياسة إلى اتخاذ مواقف وتدابير سياسية مرنة أو حملهم إلى حوار أو إكسابهم مواقف تفاوضية أفضل. كما لم يثبت أن هناك حركة مسلحة قادرة على إسقاط الدولة. الحركة المسلحة قد تستنزف موارد الدولة وتنهكها وتستهلكها وتستهلك طاقاتها لكنها لن تسقطها. وأحزاب المعارضة رغم علاقات سياسية وطيدة تربطها بحاملي السلاح إلا أنها ما زالت تعلن رفضها للعمل المسلح وبعيدا عن هذه الأحاديث إلا أنه من الواضح أن أحزاب المعارضة لن تتوانى عن توظيف بندقية الحركات لاصطياد الإنقاذ في ظروف ملائمة دون النظر إلى محاذير كثيرة. والإنقاذ نفسها ليست بمنأى عن رغبات في اصطياد الآخرين بوسائل أخرى لذلك يظل الحوار هو طريق الخروج إلى اتفاقيات سياسية شاملة. عموماً تحالف المعارضة سوف لن يستفيد من إمكانات وحركة البندقية ببساطة لأنه لا يملكها ولا يملك قرار حركتها ويخسر التحالف كثيرا برفضه لفرصة هذا الحوار المطروح، وسيخسر مستقبلا في حال أن وصلت هذه الحركات المسلحة إلى تسويات سياسية مع الحكومة. أما تعويل المعارضة على عمل جماهيري أو شعبي , فقد أثبتت احتجاجات سبتمبر الماضي أن المعارضة لا تمتلك قدرات تنظيم وقيادة مثل هذه الاحتجاجات والوصول بها إلى عتبات التغيير السياسي، ناهيك عن القدرة على ابتدارها وإشعالها، وكشفت عن حالة نخبوية وشوفينية، قصارى ما تستطيعه هو أن تجلس يتحلب فمها لعاباً كثيرا لمرحلة ما بعد الإنقاذ دون أن تدفع أي مغارم.. وحالة الإنفصال السياسي والاجتماعي لهذه القيادات الاجتماعية عن الشعب ربما كان هو أحد عوامل قوة الإنقاذ. إذن يتبقى أمام الجميع خيار الحوار لإحداث حراك سياسي يتبعه تغيير حقيقي قد يصل إلى سرة نظام الإنقاذ نفسه ويعيد صياغة تركيبة الحكم ويؤمن التحول إلى الديموقراطية وبالتالي يمكن للحوار أن يوفر طريقاً للخروج من هذه الأزمة الوطنية الشاملة وفقاً لظروف وشروط متعلقة بجديته ودينامية وتفاعلية أطرافه جميعاً والتواطؤ على إنفاذ مخرجاته في التزام سياسي صارم. نقول ذلك لأن الحوار بطبيعته التفاعلية والتبادلية سيتيح فرصة لكل المتحاورين أن يرموا بكل كروتهم الضاغط منها والمحفز على طاولة الحوار وستعمل آليات التوفيق والمواءمات بعد ذلك على لمها وإعادة رصها وصفها بشكل مرضٍ لأبعد حد للجميع. وندرك أن الحوار لا يجري بهذه البساطة التي نطرحها ولا يجري على نسق واحد، وإنما له منعرجاته ومطباته وفيه مغالبة وفيه جماعات تشدد وتجاذب في كل الأطراف، إلا أن وضوح الرؤية الكلية وتماسكها لدى أطراف الحوار سيحفز على تسليك السكة إلى إتفاقيات وتسويات لكل القضايا لأنه ما من أحد يحتكر الحقيقة والصواب تماماً دون الآخرين. وضوح الرؤية المطلوب يحتم على المؤتمر الوطني فحص المعضل الوطني بدقة تؤدي إلى معرفة حجمه وما هي ممكنات الخروج منه، وما هي طبيعة وقدر التسويات المطلوبة لإحداث اختراقات حقيقية فيه خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد وإيقاف الحرب وتداول السلطة سلمياً. كما أن على الإنقاذ النهوض بكل ما هو واجب وجوهري لإنجاح هذا الحوار الوطني، وهذا حديث له بقية. وذات وضوح الرؤية يحتم على تحالف أحزاب المعارضة أن يدرك أن الحوار الوطني أهم آليات التغيير والخروج من عنق الزجاجة، وأن هذا الحوار ليس طوق نجاة للإنقاذ وإنما هو ضرورة وطنية وطوق نجاة للجميع. ومن الحكمة والكياسة السياسية أن تتحرك أحزاب المعارضة في إطار ما هو متاح لها عملياً وهذا المتاح عملياً لأحزاب المعارضة الآن هو الحوار خاصة أن أحزاب التحالف لا تملك مصادر الحركة الأخرى المؤدية للتغيير أي تغيير. الحوار الوطني سيتيح لأحزاب المعارضة فرصة معاينة «ماكينة» الإنقاذ عن قرب ومن الداخل وفحص «الصواميل» التي تشد أجزاءها بعضها إلى بعضٍ حتى يستبينوا إمكانية تفكيك هذه الماكينة من عدمه وأية خطة هي الأصلح للتفكيك إذ لا تفكيك دون خطة ولا خطة دون فحص ومعاينة والمعاينة هنا مصدرها الحوار والحوار فقط. هذا ما كان من أمر رفض تحالف المعارضة للحوار, من وجهة نظرنا. ويتبقى لنا أن نناقش حالة السبات العميق التي راح فيها الحوار. ولماذا تلجلج الحديث عنه من بعد حسن تثقيف؟