عندما ركبت البص في السادسة والنصف، أدركت أن (الارسال المائي) لم يصل بعد المنطقة .. فقد كانت درجة عفونة الركاب عالية، والملابس متسخة جدا جدا، والعرق يتصبب علي جبين المواطنين - زي الماسورة المليانة طين - فلملمت بقايا بسمة (نص كم) كنت افردتها لمناسبة الحصول على مقعد في الحافلة أحلى من مقاعد الجمعية التأسيسية، ولذلك بوزت وأنا أتخيل التلاجة التي أصبحت خاوية على (كروشها)، والملابس المكومة في الحمام منذ ثمانية أيام بلياليها، وقد وصلت درجة لم أعد أفرق بينها وبين الأرض نسبة للتشابه الشديد ووصلت إلى محطتي والمنطقة تغوص في ظلام دامس وأنا في الطريق إلى البيت أكابس، ووجدت صفوف الجركانات والجرادل، وونسات ناس مها وعادل .. وكانت الطلمبات التي تكب في المواعين، تملأ النخرة والعين .. وفي منعطف جانبي أصوات النساء والكلاب قد اختلطت، وبعض الحبكانات قد ربطت، وعقد الأخلاق انفرط، والخراطيش شغالة بريس بريس .. ظهر وجه كأنه الكديس، يسأل كاعبا حسناء .. مخضوبة البنان بالحناء .. (قولي لي يا غادة .. مويتكم سيوبر واللا عادة) فاستعذت بالله العظيم .. الذي يعيد الخلق بعد رميم .. وتدحرجت مثل برميل فارغ على الطريق .. أشكو نشفان الريق .. ولسان حالي يقول: الناس في شنو والكدسة في شنو؟ فقد أصاب الأيدز الجمرة الخبيثة .. وصامت المياه عند ناس حياة ونفيسة .. ولم يبق لنا سوى الهواء الذائب في عوادم السيارات ودخاخين المصانع .. والسوق الأسود لكل شئ بائع. وواصلت المسير إلى المنزل .. فوجدت طفلا يشرب الماء بعيدا عن أعين الرفقاء .. ثم اندلعت ثورة تطايرت فيها الجرادل والجركانات شرقا وغربا مما أدى إلى تدخل الانتربول المحلي لفض النزاع .. بعد أن انضرب البعض في اليد والرأس والكراع. وبعد الوصول للبيت، وجدت كبير العزابة قد حرد المبيت .. ورحل بأول تكسي وقف على الظلط .. دونما اعتبار للقوانين التي تحكم المجلس العزابي الأعلى .. فأعلن نائب الزعيم (الراحل) أول قرار له بإعلان حالة الطوارئ .. والغسيل بعد نصف ساعة على النيل .. وحملنا ملابسنا المطينة ستين طينة .. وانطلقنا للنيل بغية الغسيل .. وغير الجدير بالذكر أن بعضنا لم يذهب للعمل بحجة الملابس الوسخانة .. ولعدم استحمامهم في السخانة .. كما أعلن أبو الأفكار لكل العزابة الأحرار عن شراء ملابس جديدة بعدما ركن ملابسه القديمة فوق الجريدة ثم انطلق الركب إلى النيل يسبقنا عازفو الطشاتة وفي المؤخرة الملابس. ولكن في منتصف الطريق .. وصلت إلى أسماعنا أصوات وكواريك وبكاء ونحيب فعلمنا أن أحدهم قد مات في المنطقة بسكتة قلبية إثر سرقة جركانة ماء مليانة قام بدسها في أوضة النوم .. فدخل اللص ولم يكترث للذهب والمال .. ولكنه على جركانة الموية مال .. وختفها وجرى وتجمع أهل المنطقة ومشكلة المياه ما زالت مطربقة .. وأصبحت المشكلة في غسل الميت .. فاقترح أحدهم الذهاب للبحر لغسل الجنازة هناك، واقترح آخر حمله لمدير الهيئة القومية للمياه ليحل المشكلة .. وأفتى ثالث بجواز دفنه بملابسه المتسخة لأنه – على حد قوله – شهيد من شهداء طلمبة المياه .. وأخذت الاقتراحات تنهال على طاولة البحث .. فتدخل كبير في السن .. وأعلن للجمهور عمل استطلاع عام بتصديق من المعتمدية .. واستمرت المعمعة بين أنصار هذا الرأي وذاك .. وتحرش البعض بالآخر وجاطت الأمور ثم انبرى للموقف رجل ذو ملامح سطلانية .. يعاقر البنقو علانية .. صفق بيديه الاثنتين وقال: ( إسمعوا يا هوي) فتوقف الجميع، ليسمعوا منه البديع .. فقال لهم (أحسن حاجة تغسلوهو بالكولا لأنها أكتر من الموية) فضحك أحد الحضور وقال للجمهور (سبحان الله .. المرحوم عمرو ما شرب كولا .. عايزين تغسلوهو بيها)؟.