في يوم من أيام صيف 1994م التقط جهاز الهجانة خبرًا يفيد بتحرك المتمرد يوسف كوة على ظهر «حمار» من الجبال الشرقية مروراً بطبانيه إلى تروجي ومنها إلى فارينج التي بها مدرج لهبوط الطائرات ليستقل الطائرة «طائرات الاممالمتحدة والمنظمات تسخِّر سفرياتها لقادة التمرد». إلى نيروبي لمقابلة جون قرنق الزعيم الأوحد للحركة الشعبية بعد عجزه عن القيام بأي عمل عسكري ضد القوات المسلحة وهم في حالة جوع ومرض وشح في المال وإهمال من الحركة الشعبية بعد أبشع استغلال وقع عليهم.. بقي قادة الصف الثاني من ورائه في الجبال الغربية جلد وتلش وماحولها وفي الجبال الشرقية أشرون ولمون وكاودا محاصرين في جبالهم مختبئين في الكراكير لا حول لهم ولا قوة. { أصبح يوسف كوة الطالب الحربي الذي خرج من صفوف الدفعة 21 كلية حربية بعد عجزه عن مواصلة التدريب ليلتحق بالخدمة المدنية والعمل السياسي ثم يخرج متمرداً يقود بعض أبناء الجبال بعد اتصاله بقائد الحركة الشعبية، أصبح يشعر بتهميش الحركة الشعبية لهم واستغلالها لأبنائهم وبناتهم لمصالحها والحديث عن قومية الحركة الشعبية.. بدأ يفكر في إيجاد حل لقضية الجبال بعيداً عن الحركة الشعبية. { جاءت الأخبار مرة أخرى تفيد بمشاركة يوسف كوة في مفاوضات أبوجا الثانية من ضمن وفد الحركة الشعبية. { خلال تلك الأيام كنا نعد العدة لتحرير أم دورين «الرائج ذكرها اليوم» من قبضة التمرد في إطار خطة عمليات واسعة تشمل مناطق متعددة من أم سردبة شمالاً إلى تروجي جنوباً مروراً بالريكة والبرام والتيس وطبانيا وكرورو والشاتات وكاتشا وأنقولا وكرنقو عبدالله ومن تلودي إلى تروجي بالإضافة لمحور الدلنج جلد. { أم دورين لها أهمية إستراتيجية وتعبوية كبيرة فهي في منتصف الطريق بين كادقلي وتلودي وحولها مناطق حاكمة وقبل التمرد كانت قرية نموذجية بها دونكي ومجمع إسلامي وجامع كبير شيدتهما إحدى شيخات المملكة العربية السعودية. استولت عليها الحركة الشعبية ومتمردو الجبال مع بداية التمرد وخربت مبانيها واستُبيحت مرافقها وأصبحت كالأطلال تعيش فيها الأشباح. ثم تجهيز القوة اللازمة وتجمعت أمام منطقة الحمرة والقيادة المتقدمة في قرية الحمرة. في صبيحة اليوم الذي يتم فيه تنفيذ المهمة وصلت إشارة من القيادة العامة تفيد بإيقاف كل العمليات في الجبال. السبب في ذلك أن المفاوضات في أبوجا توشك أن تصل إلى اتفاق منفرد مع يوسف كوة يشمل مناطق الجبال بعد مؤشرات تعثر المفاوضات مع الحركة الشعبية في صبيحة اليوم التالي تصلنا إشارة تلغي ما جاء في الإشارة السابقة وتسمح لنا بتنفيذ خطة عمليات الهجانة والسبب أن جون قرنق الذي كان في واشنطن عاد إلى أبوجا ونسف كل أمل يوصل إلى اتفاق وأخذ يوسف كوة معه إلى نيروبي ولم نسمع بعد ذلك بنشاط ليوسف كوة إلى أن توفاه الله. بعد استلام الإشارة الأخيرة أصبحت قواتنا في اليوم التالي في قلب أم دورين تقوم بمطاردة فلول التمرد وتطهير المنطقة ممّا أصابها من دنس ويُرفع الأذان وتُقام الصلوات وتعمر الأرض ووالي جنوب كردفان الأستاذ أحمد هارون وكوكبة من خيرة أبناء هذا الوطن من العلماء وكافة التخصصات والمثقفين كانوا في دعم وسند قوات الهجانة جهاداً عندما كانت الروح ذكية والهِمم عالية والنداء واصلاً من غير أمر والخروج دفاعاً عن الوطن محببًا لتلك الفئات أكثر من حبهم لأنفسهم. استمر تحرير المناطق التي ذكرناها تباعاً في ذلك الصيف وما تلاه واستمر عطاء القادة من بعدنا كبيراً ولم يبقَ في جبال النوبة إلا منطقة كاودا التي كنا دائماً نقول إنها شوكة في خاصرة الوطن إن لم يتم انتزاعها. لم يكن في ذلك الوقت يستطيع أي متمرد أو أحد قادتهم أن يُطلق طلقة واحدة في أي مدينة من مدن الجبال ناهيك عن كادقلي العاصمة التي استُبيحت بالأمس وشُرِّدت أسرها. لا يستطيع أي قائد من قادة التمرد الذين يملأون اليوم الصحائف والأثير لغواً وتبجحاً وتطاولاً أن يخرج من كركوره أو الوصول إلى قواته في مناطق أخرى إلا تخفياً وتحت جنح الظلام ولم تكن الناس تسمع بهم أو تعرف أخبارهم حتى جاءت نيفاشا ببدع الدرديري وإدريس فيما يسمى ببرتكول الترتيبات الأمنية التي أعطت قادة التمرد في الجبال أضعاف ما كان لديهم من قوة ولم يكونوا قبل ذلك قادرين على الاستيلاء على نقطة صغيرة في وسط الجبال فيها فصيلة بقيادة شاويش من قوات الهجانة. أطلقت نيفاشا يدهم في الجبال قوة مدعومة بالسلاح والمال من المركز ومن قيادة الحركة الشعبية وساوت قوات التمرد بالقوات المسلحة قوة وقيادة وفوق ذلك 45 في المائة من السلطة والحكم والتمثيل في البرلمان.. وهل كان همهم الاستقرار والأمن والسلام والتنمية؟ وهل كانوا يرضون بذلك لإنهاء حالة الاحتراب التي خربت الجبال وعطَّلت الحياة فيها؟ وهل كانوا قبل ذلك يعون أو يفهمون أو يشعرون بأن الحركة الشعبية كانت تستغلهم لمصلحتها لا لمصلحتهم ولأهدافها لا لأهدافهم؟ لا يستطيع كاتب معاصر للوقائع مهما كان دقيقاً أن يصف حال أبناء النوبة المقفولين في مناطق التمرد عندما تركهم يوسف كوة وبعض من قادته وذهبوا إلى نيروبي. تركوهم يعانون من المرض والجوع والجهل، عارية أجسادهم حافية أقدامهم غائرة عيونهم يخشون قسوة الحياة وتسلط الحركة الشعبية. أدرك يوسف كوة وقتها أن لا خير لهم في الحركة الشعبية ولا مستقبل لأهله إلا عن طريق المفاوضات والوصول إلى السلام وكان من منطلق قناعاته سيصل إلى اتفاق مع الحكومة لولا تسلط جون قرنق عليه الذي جاء من واشنطن يحمل أجندة خفية نسفت مفاوضات أبوجا وأخذ معه يوسف كوة إلى نيروبي حيث مات حسرة ومرضاً وكمداً على جبال النوبة التي تضيع. ما أدركه يوسف كوة واقتنع به قبل سبعة عشر عاماً لم يستطع أن يدركه عبد العزيز الحلو وصحبه من أبناء النوبة حتى أمس بالرغم من أنهم شاهدوا وعايشوا التنمية تنداح لتعم الجبال وهم يركبون الهمر!! والإنسان الذي كان محروماً في زمن تمردهم أصبح يتحرك آمناً وينتج رزقاً ويعيش حياة ويلبس ويقرأ ويجد العلاج له ولأهله ولأنعامه. هؤلاء المساقون كالأنعام في غفلة وهم تبع لأجندة يتأبطها باقان وعرمان لا يدركون أن بالقوة لن تفرض امراً وبالتمرد لن تهزم جيشاً وبترويع المدن لن تكسب إنساناً. فهل بعد استباحة كادقلي تأتي يا عبد العزيز لتحكمها. كان الوالي أحمد هارون حليمًا معكم فصبر عليكم أكثر مما يجب وكان سخياً لكم فأعطاكم من السلطة ما لا يجب، وكان حسن الظن بكم فوقّع معكم من الكتب والإعلانات أكثر مما يجب.. أليس من حق أهل كادقلي الذين غدر بهم الحلو أليس من حقهم أن يقولوا لواليهم: السيفُ أصدقُ أنباءٍ من الكُتُبِ