بعد إذاعة بيان التشكيل الوزاري لحركة مايو، انطلقت العديد من الشائعات والهمس حول الهوية السياسية للانقلابيين الجدد، ومعظم الهمس انصب حول تبيعتهم للحزب الشيوعي وعن الدور الذي قام به في الانقلاب، وهو أمر أغضب الرئيس نميري واستدعى بابكر عوض الله الذي نفى أي دور للشيوعيين فيه، أو أي انتماء للوزراء بالحزب الشيوعي، إلا أن هذه الشائعات وجدت أرضية قوية عندما شارك الشيوعيون بكثافة في موكب التأييد في الثاني من يونيو 1969م بشعاراتهم الحمراء التي لم يكفوا عن رفعها في العديد من الحشود واللقاءات الجماهيرية، وبالمقابل حاول نميري أن يظهر لوناً مختلفاً لحركته مغايراً للفكر الماركسي مثل شعار الوحدة الوطنية في مقابل وحدة القوى الثورية، كما حرص على أن يتحدث عما سماه الاشتراكية السودانية التي تستلهم مبادئ الإسلام في إشارة لرفضه الاشتراكية العلمية. بداية التوجس وإزاء إصرار الشيوعيين لإعلان احتواء النظام الجديد، كان نميري يعتزم إعلان موقف الحركة الرافض للشيوعية والتعاون معهم، إلا أن أعضاء مجلس الثورة كما أورد مؤلف كتاب «الرجل والتحدي» كانوا يرون أن إعلان هذا الموقف هو مبادرة عداء لعناصر لم تشترط إعلان هويتها الفكرية والعقائدية في إطار مساندتها للثورة، غير أن الرئيس نميري لم يقتنع لأسباب عدَّدها عبر كتاب الرجل والتحدي الذي كتبه كما أشرنا من قبل السكرتير الصحفي للرئيس نميري ونسبه لكاتب مصري يدعى عادل رضا وجاءت الأسباب على النحو التالي : 1- إنه بتجربته الشخصية في أكتوبر 1964م ثم مايو 1969م قد واجه التنكر الشيوعي لأية مبادرات لا يتولون قيادتها أو على الأقل لا يكون لهم دور رئيس فيها. 2- إن التحرك الشيوعي رغم عدم إعلانه عن هويته بصورة سافرة، إلا أنه يطرح شعارات ويخلق من شائعات يهدف إلى إيهام الجماهير بأنه المهيمن على الثورة أو على الأقل المحدد لاتجاهاتها . 3- إنه يرى وعن اقتناع أن هدف الشيوعيين من التظاهر بتأييد الثورة، إما يتمثل في اتاحة الفرصة لهم لممارسة العمل العلني برضا الثورة أو رغماً عنها كمرحلة سابقة للانقضاض عليها. 4- إن النشاطات المكثفة للتنظيمات الخاضعة لسيطرة الشيوعيين الفكرية أوالتنظيمية أوالتي تقودها عناصر شيوعية ملتزمة إنما هي جزء من خطط لاحتواء الثورة أو الانحراف بها عن طريق تحقيق أهدافها المعلنة، وإنه سيقف أمام هذا المخطط بصلابة. واستمر الرئيس نميري في إبراز خط متمايز عن الشيوعيين ولكن دون الإشارة إليهم بصراحة . لقاء تكتيكي وإزاء ذلك يقول الرئيس نميري إن عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي طلب لقاءه أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يرفض بشدة، إلا أن عبد الخالق حاول تدبير لقاء دون ترتيب من نميري. وقد روى نميري ذلك حيث قال بحسب المصدر السابق: «المرة الأولى كانت مقدمتها فيما ظننت صدفة، فقد كنت في تلك الأيام المبكرة للثورة لا أكاد أغادر مكتبي بالقيادة العامة في الليل والنهار إلا للقاءات الجماهيرية داخل وخارج العاصمة، وفيما عدا ذلك فإن مقابلاتي كانت تتم في أحد أركانه «سرير حديد صغير»، وكانت ساعات النوم محدودة ما كانت تصل لأكثر من ثلاث ساعات، حيث كانت تتخللها مقابلات مفاجئة أو محادثات تليفونية مهمة. وفي صباح أحد الأيام دخل إلى مكتبي العميد محمد عبد الحليم الذي كان يعمل مستشاراً قانونياً لمجلس الثورة، ليقترح عليّ الانتقال إلى منزله لعدة ساعات باعتبار أن هذه هي الفرصة الوحيدة التي يمكنني فيها أن أواصل النوم لفترة معقولة دون احتمال لإزعاج، وأغراني الاقتراح وخاصة أنني كنت في حالة سهر متواصل ولمدة تزيد عن «48» ساعة قضيتها في مقابلات واجتماعات متواصلة. وانتقلت إلى منزل محمد عبد الحليم القريب من مبنى القيادة العامة، وكان المنزل خالياً لأن المقيمين فيه كانوا في إجازة خارج البلاد، وبمجرد أن غادر العميد محمد عبد الحليم الغرفة استغرقت على الفور في نوم عميق، وبعد عدد من الساعات استيقظت لأجد على مقعدين بجانب السرير العميد محمد عبد الحليم ثم عبد الخالق محجوب، كانت مفاجأة استوعبتها وأنا أرد التحية التي نطق بهما كلاهما في وقت واحد. في الفترة التي قضتيها في ارتداء ملابسي كان ذهني مشغولاً في موضوع واحد هل محمد عبد الحليم متواطئ مع عبد الخالق في تدبير هذا اللقاء أم أنه تم رغماً عنه؟ ولكن كيف ولا أحد يعرف مكاني سواه .. وبعد أن ارتديت ملابسي حاول عبد الخالق أن يبدأ حواراً، فقلت له أنت في زيارة صديق ثم أننا التقينا على غير موعد، إلا أنني رغم ذلك أقبل الحوار على أن يتم في إطار شخصي جعفر نميري وعبد الخالق، قال ولكن قضايا الساعة، قلت ناقشناها يوم 24 مايو هل تذكره. وما بعد هذا التاريخ هناك سلطة شرعية تتولاها وأنت مواطن لا أظن أنه من حقك أن تناقش معي، إلا إذا كانت هناك فرصة مماثلة متاحة لكل ملايين السودانيين لمناقشتها بنفس الصورة، ثم أنني أسأل وأتولى الإجابة.. أنت تريد حواراً فلماذا تريد أن تخرج من هنا وتقول قابلت جعفر نميري في غير مكتبه وبترتيب خاص وفي إطار من السرية، وأنت وأنا ناقشنا موضوعات مهمة لتعطي انطباعاً باننا ندور في فلك واحد، وأنت تعلم أن هذا غير صحيح وخرجت دون أن أتيح له فرصة الرد. ويقول نميري: «إن المرة الثانية كانت مخططة ببراعة وبدهاء كبير وبذكاء، واعترف بأنه استوعب الدرس المستفاد من المرة الأولى بنجاح كبير.. كانت المناسبة لقاءً جماهيرياً احتشدت له الآلاف في منطقة بري بضواحي الخرطوم، ووصلت في الموعد المحدد ومعي بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، أذكر منهم الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم، حيث تمكن بصعوبة من الوصول إلى هناك وسط الحشود، وكان الحفل مذاعاً على الهواء، وكالعادة بدأ بالقرآن الكريم، ثم توالى المتحدثون، وفي النهاية جاء دوري وألقيت خطابي، ثم تركت المنصة متأهباً للانصراف، إلا أن مذيع الحفل أعلن عن متحدث جديد. وكانت المفاجأة مزدوجة، والتقليد السائد في السودان وفي غير السودان هو أن يكون الرئيس آخر المتحدثين، وكان حديثاً بعد حديثي مفاجأة.. إلا أن المفاجأة الأخطر كانت في شخص المتحدث الذي أعلن عنه المذيع وهو عبد الخالق محجوب». صحيح أنه لم يقدمه بصفته الحزبية ولا موقعه في الحزب كسكرتير له، ولكن الصحيح أن مجرد وجوده وفي إطار لقاء جماهيري مع رئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة هو إيحاء بأن هناك علاقة وثيقة تربطهم به، وهي علاقة غير شخصية بطبيعة الحال، ثم يمضي نميري قائلاً: «فكرت في عدة خطوات، الأولى أن أتوجه حيث يقف متحدثاً لأنزعه من مكانه، إلا أن ذلك كان يعني بأنني أضع موقعي في تكافؤ مع موقعه بغض النظر عن شخصي وشخصه. الثانية أن انسحب من الحفل، إلا أن ذلك كان يعني أنني أخلي الساحة له وهو دخيل عليها. الثالثة أن اتجاوز الموقف بأكمله مستفيداً من الدرس، وفي أول اجتماع لمجلس قيادة الثورة ناقشت ما حدث، موضحاً أبعاده، مركزاً على أن يكون رئيس مجلس قيادة الثورة ومن ينوب عنه آخر المتحدثين في مثل هذه اللقاءات. وقد وافق أعضاء قيادة مجلس الثورة ما عدا اثنين هما بابكر النور وهاشم العطا، بحجة أن ذلك قيد على الحركة الجماهيرية التلقائية والعفوية في مساندة الثورة، كما أن ما حدث يعكس التفاف مختلف الاتجاهات والأفكار والتيارات السياسية حول الثورة». انقلاب الشيوعيين ويحكي نميري عن أن اجتماعات مجلس الثورة بدأت تتسرب، وقد لاحظ أن هاشم العطا كان يدون مداولات الاجتماع، وعندما سأله عن السبب قال له إنها عادة قديمة، ثم لم تمض فترة عندما أطاح المجلس بقيادة نميري هاشم العطا وبابكر النور وكلاهما أعضاء ملتزمون في الحزب الشيوعي، ولم تمض فترة طويلة حيث قام هاشم العطا وبعض القيادات الشيوعية في القوات المسلحة والسياسية بعمل انقلاب في العام 1971م، حيث شهد مجزرة بيت الضيافة التي كان قتلاها ضباط موالين لمايو وأن لم يتم التحديد القاطع للمسؤولين عن المجزرة حتى الآن بأسمائهم بشكل قاطع، ثم نجح النظام وموالوه من القوات المسلحة في استعادة الحكم بعد ثلاثة أيام، وصادق نميري على حكم الإعدام بحق هاشم العطا وبابكر النور العضوين السابقين لمجلس الثورة، بالإضافة إلى سكرتير الحزب الشيوعي البارز عبد الخالق محجوب، والزعيم الشيوعي العمالي الشفيع أحمد الشيخ وآخرين، والذي أصدرته محكمة ميدانية بالمدرعات بالشجرة عقب فشل الانقلاب، حيث كان نميرى غاضباً جداً ومدفوعاً برغبة الانتقام حتى أنه أعاد بعض الأحكام للمحكمة لأنها لم تشمل الإعدام، وقد لاقى دحر الانقلاب الشيوعي قبولاً كبيراً من الشارع السوداني لأسباب عقدية ولأسباب تتعلق بقناعاته بالنظام المايوي الجديد كنظام وطني يسعى للإصلاح والتنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة أن مايو لم تكن تبرز بعد أبرز مساوئها إذ لم يمض عامان على تفجيرها. وعقب دحر الانقلاب بعد فترة قصيرة سارعت الولاياتالمتحدة إلى سد المساحة التي تركها الاتحاد السوفيتي الذي تعاون مع النظام في بدايته وقبل حدوث الانقلاب الشيوعي الفاشل، حيث مد القوات المسلحة بأسلحة شملت مدرعات وطائرات وأسلحة خفيفة، وأعلن نميري في لقاء جماهيري أن الولاياتالمتحدة قدمت دعماً كبيراً للسودان بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا مع متمردي جنوب السودان آنذاك، وأنه يفكر في إعادة العلاقات الدبلوماسية معها، وهو ما فعله بعد فترة قصيرة. وتطورت هذه العلاقة مع نظام مايو ووصلت مرحلة التدريب العسكري مثل العملية التدريبية الشهيرة النجم الساطع، كما أن نميري ذهب للعلاج في الولاياتالمتحدة في رحلته الأخيرة، حيث أطاحته به الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985م، لكن الولاياتالمتحدة اكتفت بمراقبة الانتفاضة ولم تمد يد العون لصديقها الوفي نميري حتى غرق نظامه وأفل وأصبح تاريخاً يروى.