في العام 1973م كنت أقدم برنامج طبيعة الأشياء من التلفزيون القومي. كان هناك نوع من مستحضرات التجميل يعرف باسم «آمبي وآمبي اسبيشال» ويستخدم لتفتيح البشرة.. المستحضر كان يحتوي على مركبات الزئبق مثل كلورايد وأيودايد الزئبق. وكان صرعة ذلك الزمان. بنات السودان أقبلن زرافات «طويلات الرقبة» ووحدانا. والبنت تجادل مولانا جدالاً لا مهادنة فيه لتقنعه أن آمبي اسبيشال حبيب الملايين لا يمكن أن يكون استخدامه حراماً لأنه يضيء الوجه فيجذب إليه فراشات الحب ويتم الزواج الذي به يكتمل نصف الدين. أملاح الزئبق يمتصها الجسم من خلال مسامات الجلد فتدفع بطبقة الميلانين وهي التي تحمل الأصباغ السوداء وتجلس مكانها وتعكس لوناً طباشيرياً فاتحاً وهو غاية المراد من رب العباد وتبدو البنت فاقع لونها تسر الناظرين وكما يقول أخونا الشاعر شمس الدين حسن الخليفة: يا الخاتفة ليك لونين ختف... واحد نزل حتى الكراع... وواحد وقف عند الكتف. . ولكن تلك الأملاح تتسرب إلى الكليتين فتعطبهما وتعرج على الكبد لتتجمع فيها إلى حين. وكان علينا أن ننبه بنات السودان إلى حجم المضرة التي تحدق بهن. أحضرت القردة نانسي وكنا نحتفظ بها في متحف التاريخ الطبيعي وأوضحت للمشاهدين أننا سنقوم بجلبطة القردة بكميات كبيرة في الوجه كل يوم لنرى آثار ذلك المستحضر عليها وعلى صحتها. كل ذلك تم بالتعاون مع وحدة الأبحاث البيطرية التي كانت تواجه المتحف من الناحية الشمالية. وقد كان يرأس تلك الوحدة صديقي البروفيسور محمد الطاهر عبدالرازق عليه رحمة الله ورضوانه. واهتم بالبحث كثيراً حيث إنه جند عدداً من الباحثين بالوحدة لمراقبة حالة القردة نانسي وتتبع ما يحدث لها. بعد مرور أكثر من شهر أخذت أعراض الفشل الكلوي الحاد تظهر عليها.. مثل تورم الرجلين وانتفاخ الوجه وقلة البول وتغييرات في كيمياء الدم.. فأوقفنا التجربة هنا وبدأنا في معالجة القردة غير أني حملت نتيجة تلك التجربة وعرضتها على المشاهدين. معظم التعليقات التي وصلتني من الفتيات تقول : «بالغت.. ياخي دي قردة... نحنا قرود؟». وذكرت للفتيات أن راشيل كارسون عندما كتبت مؤلفها «الربيع الصامت» عام 1962م ونبهت فيه إلى خطورة المواد الكيميائية التي يمتصها الجسم أو تدخل مع الأكل الذي يلتهمه وخاصة مادة الدي دي تي التي يمتصها النبات فتنتقل إلى الأبقار التي تأكلها ثم تترسب في الكبد ومنها إلى الحليب ومنها إلى الإنسان فكان أن سارعت وكالة الغذاء والدواء الفدرالية الامريكية إلى نصح الأمهات في ولايات الغرب الأوسط كأركنسو وكانسس وميسوري ألا يرضعن أطفالهن من أثدائهن لأنه بعد الفحص اتضح أنه يحتوي على نسبة كبيرة من مادة الدي دي تي. والقضية ليست قروداً أو غيرها ولكنها تتعلق بدورة العناصر الكيميائية في جسم الإنسان. ومقايضة البنت لصحتها مقابل لون فاتح ليست في صالح البنت مهما كانت درجة تفتيحها فهي على الأقل تدل على أن الفتاة المذكورة أعلاه ليست «تفتيحة». آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع.