قبل أن تلتبس أمور كثيرة، وتتداخل المشتبهات بين الحرام السياسي وحلاله، فإن الوقائع والتوقعات كلها تشير إلى أن القاهرة في طريقها لتكون إحدى الحاضنات الرئيسة لنشاط المعارضة السودانية السياسية والعسكرية، خاصة بعد اختيار السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي الإقامة فيها لأجل غير مسمى، وقطعه الشك باليقين كما يظن، بأن الحكومة ستعتقله فور وصوله للبلاد على غرار ما تم لكريمته الدكتورة مريم أول من أمس، وكذا لن تجد القاهرة الحاضنة، أية غضاضة في الاستمرار في احتضان أكثر دفئاً وقرباً لأطياف المعارضة الأخرى وخاصة المسلحة التي كانت موجودة بالفعل وتحظى بمعاملة خاصة قبل حلول السيد الإمام مقيماً غير محدد الآجال. إذا كان اجتراح القاهرة وتتبعها عواصم أخرى عربية مسارها الجديد وهي تبحث عن دور إقليمي فقدته من عقود، فإن الإخفاق السابق والراهن في التعاطي مع ملفات عربية وإفريقية وأهمها الملفان الفسلطيني والسوداني، سيضيف بعداً جديداً في الفشل المتوقع بشأن التنسيق والعمل مع ركامات المعارضة السودانية المتجمعة كزبد بحري سيذهب جفاءً.. معلناً الفشل اللاحق للدور الإقليمي المنتظر لهذه الحاضنات الجافة الضروع.. المنطفئة الأثداء!! وباحتجاز السلطات هنا في الخرطوم، مريم الصادق المهدي العائدة من باريس منتشية بزهو مزيف لإعلان باريس الذي لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به، تكون الحكومة قد حددت موقفها من هذا الإعلان المستقبح من جانبها، ومضت خطوة متقدمة في رفضه ووضعه تحت نعالها، ويبدو أن تقديرات الموقف الحكومي مبنية على حقائق ومعلومات لا تتعلق فقط بمحتوى الإعلان ونصوصه وتفسيراته، إنما ترتبط بتوقيتاته.. وما وراءه .. وما تم في كواليسه، والتعهدات المبرمة بين طرفيه وما قيل في الخفاء والأدوار المطلوب من حزب الأمة القومي أن يلعبها والتبريرات اللفظية التي يجتهد السيد الصادق في إلقائها على المسمع السياسي المحلي والخارجي. وحسب ما أشارت تقارير دبلوماسية غربية، فإن ما دار في باريس قبل ذهاب السيد المهدي إليها واجتماعات المعارضة المسلحة وما تسمى الجبهة الثورية وزيارات وفود عديدة من الداخل تمثل المتعاطفين مع حركات دارفور المتمردة ومناصري الجبهة الثورية وبعض السياسيين إلى هناك قبل مجيء إمام الأنصار، كانت هناك تحضيرات ورسم أدوار ومعالم، ولم تلبث طنجرة المعارضة أن استوى ما طبخ في جوفها وباتت جاهزة لدلقها حتى تؤتي ثمارها وأكلها، وكان مطلوباً أن تعطي زخماً سياسياً ويتم نفخها بالهواء الساخن الذي يعتمل في صدر السيد الصادق منذ خروجه من محبسه بعد القبض عليه وإيداعه السجن على خلفية تصريحاته حول قوات الدعم السريع. فقوى المعارضة السياسية والمسلحة وجدت صدى مؤيداً لها عند بعض القوى المعارضة بالخرطوم حتى تلك الموافقة على الحوار الوطني والمنخرطة فيه، وكأن السيد الصادق وإعلانه الباريسي هو المخلص ومسيح السياسة السودانية، الذي سيعود حاملاً وريقته الجديدة من عاصمة النور ليملأ الأرض سلاماً وحواراً وعدلاً بعد أن ملئت جوراً.. وسيهبط ماشياً على إيقاعات وأنغام وهدير المارسيليز الفرنسي العتيق. وتتوهم كثير من التعليقات والتحليلات السياسية والصحفية، أن مجرد الإشهار عن توقيع الإعلان، هو بمثابة طي لصفحة الحروب والصدامات والمواجهات ونشر صفحة جديدة للسلام والأمان، فالجبهة الثورية تناور بهذا الإعلان ولن تتخلى عن مشروعها السياسي والعسكري، فقد وظفت واستخدمت السيد المهدي لخدمة غرضها التضليلي، واتخذته للتعمية على المخطط الإقليمي والدولي الجاري تنفيذه في المنطقة ومن بينها السودان. وتلك علة وعمى ألوان وعشى ليلي يحجب كثيراً من السياسيين والمحللين والكتاب، عن رؤية الأوضاع على حقيقتها كما تراها العين، واستبصار ما وراء الأكمة!! إذا كانت الجبهة الثورية حريصة على الحوار ووقف الحرب، فإن الحكومة قد طرحت عليها من قبل وقفاً شاملاً لإطلاق النار وليس وقفاً جزئياً ومؤقتاً في المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق من خلال المنبر التفاوضي في أديس أبابا، ورفضه يومها قطاع الشمال وبقية مكونات الجبهة الثورية التي هددت قطاع الشمال بالحركة الشعبية بفض التحالف إن وافق على ذلك.. فرفض وتخندق الجميع عند مواقفهم. فما الجديد اليوم.. هل تغيرت الجبهة الثورية؟ وهل ثاب قطاع الشمال إلى رشده وتاب عن أفعاله؟! أم أن قواعد جديدة للعبة قد وُضعت.. وجارٍ تنفيذها؟؟ ما يحدث ملهاةٌ وخداعٌ جديدٌ .. ستتكشف خفاياه وخباياه.. وسيعلم الجميع بعد حين.. من وراء كل هذه اللعبة ومن يحركها وكيف يتم تحريك بيادقها... وحتى ذلك الوقت فليهنأ المهدي بقاهرة السيسي بعد الإنجاز الباريسي!!