قلنا في خاتمة الحلقة السابقة إن قرار السيد/ وزير الصحة الاتحادي ستكون له تداعيات يجب أن نتحسب لها، وقلنا ان قرار ايقاف الاستيراد، رغم استقلاليته عن اجواء الصراع، إلا انه يأتي كأحد افرازات هذه الاجواء الصراعية. على كل حال ما دام الامر كذلك، من وجهة نظر شخصية، فأجد حتاماً عليّ أن اطرح على سيادة الوزير بعض المقدمات التي ربما توضح مقدار وحجم التداعيات المترتبة على قراره.. وحتى لا نخوض في لجج المنتجات الحيوية المثيلة كلها دعونا نأخذ مثالاً واحداً فقط هو دواء الERYTROPOEITIN، لأنه كما ذكرنا هو الدواء «مثار القنع» في كل ما يدور حول تلك المنتجات. اعود بك يا سيدي الوزير لقصة تتعلق بالمنهج المذكور، والملعب الذي جرت فيه تلك القصة هو الهيئة العامة للامدادات الطبية، في احد اجتماعات مجلس الادارة طلب د. جمال خلف الله، المدير العام للهيئة، من المجلس تفويضه في توقيع اتفاق مع شركة ألمانية ليتم استيراد دواء ال Epoeitin منها حصرياً!! وللأسف فقد تم للرجل ما أراد بحجج هي أوهى من خيط عنكبوت واحد!! وسنقوم هنا بعرض هذه الحجج ونفندها واحدة إثر الأخرى: فقد ذكر الدكتور جمال خلف الله ان هذا الاجراء «التفويض» سيسمح بانسياب هذا الدواء دون انقطاع!! وهذا، ما لعمري، تخليط شنيع لأن انسياب أي دواء مرتبط باجراءات ثلاثة هي: تجديد الاحتياجات بصورة دقيقة، ثم طلب هذه الاحتياجات من المصنع قبل وقت كافٍ، وأخيراً توفير التمويل المالي لتغطية قيمة الكمية المستوردة!! ولا يوجد مبرر مرتبط بمصلحة عامة في ثنايا هذا الطلب، لأن انقطاع هذا الدواء وارد عند تجاوز أي من تلك الاجراءات التي ذكرناها، خاصة ان د. جمال خلف الله شكا على صفحات الصحف السيارة، من وجود سيولة نقدية لديه لا يستطيع تحويلها للخارج. ثانياً: ذكر جمال لمجلس الإدارة أن طلب هذا الدواء حصري من تلك الشركة سيؤمن للإمدادات أفضل الأسعار «أي أرخص أسعار ممكنة» وهذا تخليط أشد وطأة وأنكأ مما سبقه من تخليط، لأن أفضل الأسعار هي تلك التي يتم الحصول عليها عبر المنافسة وليس عبر الاحتكار والشراء الحصري!! لذلك كانت العطاءات هي الآلية التي تسمح للحكومة بالحصول على أفضل الأسعار في كل أنواع المشتريات من سلع أو خدمات أو إنشاءات، كما أن الشراء عبر العطاءات يوفر أكبر قدر من الشفافية في الصفقات والمعاملات المليارية!! أليس ذلك كذلك يا د. جمال خلف الله!! هذه علامات تعجب وليس استفهام!! ولكن هل تحقق للإمدادات الحصول على افضل الأسعار، بحسب زعم مديرها العام؟ دعونا نرى الحيثيات بشيء من التفصيل: قامت الإمدادات الطبية باستيراد «100» الف وحدة من الدواء مقسمة على دفعتين، وتم تسعير الوحدة ب «117» الف جنيه «قديم»، أي ان كل الشحنة كان من المتوقع أن تباع ب «11.7» مليار جنيه قديم.. وذلك لم يتم لسبب بسيط هو أن اسعار المنتجات المثيلة الأخرى يتراوح بين 40 60 الف جنيه «قديم» للوحدة الواحدة.. اذن استوردت الامدادات الدواء وباعته بضعف وبثلاثة اضعاف المنتجات الموجودة اصلاً ومتداولة لسنوات طويلة!! المركز القومي للكلى وهيئة التأمين الصحي وغيرهما رفضوا شراء هذا الدواء من الامتدادات الطبية بسبب هذا السعر المرتفع.. ولما ركد الدواء في مخازن الامتدادات الطبية تم تخفيض سعره إلى «65» ألف جنيه «قديم» ثم تم رفع سعره إلى «70» ألف جنيه !! أرأيتم التخبط والفوضى وسوء إدارة المال العام؟ رغم كل ذلك لم يتم التخلص من كل الكمية حتى قرب تاريخ نهاية صلاحيتها، ووصلت شكوى بالأمر للمجلس الوطني، فتم التخلص منها مجاناً!!! إذن فشل مدير عام الامتدادات في توفير هذا الدواء بسعر يستطيع الصمود أمام اسعار القطاع الخاص، وانهزمت الامدادات الطبية كما لم تنهزم من قبل امام القطاع الخاص!! وبحساب بسيط سنجد أن الامدادات الطبية خسرت مليارات من الجنيهات «قديم» لأن تخفيض سعر «100» الف عبوة من «117 70» الف جنيه، يعني خسائر تبلغ جملتها «4.7» مليار جنيه «قديم ايضاً»، واذا اضفنا خسائر أخرى نتيجة للتخلص من كميات أخرى مجاناً، بسبب قرب نهاية صلاحيتها، لازداد المبلغ ملياراً آخر على الاقل. لتفصيل تلك الخسائر نحن امام ثلاثة احتمالات: اما ان خسارة المليارات هذه قد تحملتها الامدادات الطبية، وفي هذه الحالة فإن كفاءة هذا المدير د. جمال ستكون على المحك، وليس لنا في هذه الحالة إلا المطالبة بمحاسبته وابعاده عن هذا الموقع. وإما ان هذه الخسارة تمت تسويتها على حساب المواطن «المريض» المسكين وذلك عن طريق رفع سعر اصناف «أدوية» أخرى، وبالتالي يكون المريض الذي يزايدون على مصلحته قد دفع ثمن اخطاء لم يكن طرفاً فيها. والاحتمال الأخير هو أن ينكر المدير العام للامدادات الطبية وجود خسارة، أصلاً، وفي هذه الحالة ستكون الإمدادات قد وضعت هامش ربح يفوق ال 50% من تكلفة الدواء، واذا حدث هذا لا قدر الله ستكون الامدادات قد افرغت من رسالتها ووظيفتها. والفلسفة التي يقوم عليها عملها هو «توفير الدواء بأقل سعر وبالجودة المطلوبة في الوقت المناسب»!! وعند هذه النقطة دعونا نذهب للقول: إن التفويض الذي منحه مجلس الادارة لدكتور/ جمال خلف الله يتناقض تماماً مع أسس وقواعد وأهداف عمل الامدادات الطبية. ثم راج د. جمال خلف الله يطرح على مجلس الإدارة موضوع الجودة، لأن ذلك المصنع مصدر اصيل لهذا الدواء !! وهذه حجة تحسب على السيد المدير العام لا له!! فقد كان سيادته أميناً عاماً للمجلس القومي للصيدلة والسموم، ولم نسمع له حساً ولا صوتاً يتحدث عن عدم جودة أصناف هذا الدواء الواردة من مصانع أخرى غير أصيلة، واستمر في السماح باستيرادها من مصادرها غير الاصيلة رغم أنف لائحة الشروط التي وضعتها لجنة تسجيل الأدوية البشرية بالمجلس القومي للادوية والسموم في عام 2009م، وكان هو الأمين العام للمجلس، أي الشخص المسؤول عن تنفيذ قرارات المجلس ولجانه المختلفة.. والسؤال إن كان هذا المنتج الألماني هو الأكثر جودة لجهة سلامته ومأمونيته.. ووروده من شركة «أصيلة»، فلماذا تم السماح باستيراد الاصناف الأخرى من كوريا الجنوبية والإمارات العربية؟ إذا تحدث أحد، أي أحد، عن عدم جودة الصنفين الآخرين وتفوق المنتج الألماني عليها جودة، سيكون حديثه مجرد هتر لا تسنده أدلة ولا شواهد ولا يتحدث بلغة العلم ولا حتى موجهات هيئة الصحة العالمية، وهذا حديث سيأتي في موضعه، خاصة أن هذين المنتجين موجودان في سوق التداول لسنوات طويلة، «12» سنة و «8» سنوات، وحد علمي أن اختبارات الهموجلوبين قبل وبعد استعمال الدواء اثبتت فعاليتهما، واتمنى أن كان حديثي غير صحيح ان يقوم د. محمد السابق مدير المركز القومي للكلى بتكذيبه، وأسأله إن كان أي مريض قد شكا من استعمالهما بوجود أعراض لأية آثار أو استجابات مناعية!! عموماً كان بإمكان د. جمال خلف الله العمل على شطب المنتجين منذ عام 2007م وحتى عام 2010م حينما كان المسؤول التنفيذي الاول للمجلس القومي للادوية!! ومن المؤسف أن تتغير حقائق العلم والمواقف المهنية المبنية عليها بتغير مواقع المسؤولين، فيتكلمون بلسانين أو اكثر، حسب الموقع الوظيفي وحسب مقتضيات الحال!! وسنواصل في الحديث عن الجودة في المقال التالي، حتي نصل لجودة المنتجات الحيوية المثيلة.