فصل الخريف يعتبر من الفصول المهمة جدًا بل هو سيد الفصول من حيث تدفق الخيرات ونعم البركات بإنزال الغيث والمطر المدرار الذي ينبت الزرع ويملأ الضرع ويحي الارض بعد موتها وتنبت من زوج بهيج.. فالصغار عندما تنهمر الامطار يخرجون وهم فرحين مسرورين ينططون وباصوات عالية وبايقاعات منسجمة وفي شكل كورال يرددون «عية.. عية...اولاد ابوي.. الفي السراية القدامية».. وهذا بلغة اولاد الريف وبلغة اولاد المدن والبنادر «يا مطيرة.. كبي لينا.. في عينينا.» وفصل الخريف في الريف له نكهة خاصة ومذاق وطعم واتذكر ونحن صغار عندما تنزل الامطار نقوم ببناء منازل الطين والحيشان الصغيرة نبني فتهدمها الرياح فلانضج ولا نثور.. وكذلك لعب التيوه والعوم على الطبيعة في الساحات الممتلئة بمياه الامطار والمصارف والقنوات.. وفي ذهني وذاكرتي يراعي وريشتي ومدادي الذي كتبت ورسمت به هذه اللوحة الناطقة في الخريف اللواري بتقيف.. والجيوب بتعدم التعاريف.. والمساعدية يبقو إبيعوا في الرغيف.. واولاد ام شلعة وحشوشه.. يلعبوا المنوله والسيجة في شوارع الحلة وفي الضللة. ويخموا تراب الترس الرهيف.. ودا الخريف واوعاك يا زول من لبس التوب النضيف.. والبراق البشلع وبيضحك.. والرعد البلعلع ويقيف.. واوعاك من القدلة والفنطظة.. في الشارع الملكك بموية المصاريف.. واحذر يا زول السفر في المطر.. ولواري الريف البتوحل وتقيف.. ود الخريف خليك جاهز وما تقيف.. ونضف السبلوقة والعرش الظريف.. وجهز راكوبتك بالفلكاب.. وقش النال الطوال.. وكربّها بالحبال.. عشان ما تدي فرقة لموية المطرة.. وتنزل في المشلعيب وتبوظ ام تكشو.. والشرموط المعلق.. في حبل السعف الخفيف.. ودا الخريف.. شمر واقطف الموية وشيل سلوكتك والجراية والملود.. واتوكل عل الحي الدائم وازرع واصلك ما تقيف.. عشان دا الخريف الفيه مسورك.. وفيه خيرك الكثير ليك ولي اولادك ولي بلدك ولناس البنادر وأهلك في الريف. والخريف له عين «بكسر العين وفتح الياء وتسكين النون» فيبدأ الخريف بعينة العصا العطشانة والعصا الرويانة واهلنا العرب يقولوا «مطر بعد العِصي قِسي» والضُراع وعينة النترة التي يتكاثر فيها البحّات والعصفور منه الجدورية وابابقير وقدوم اصفر وقدوم احمر وابصندوق والسميح والمامور.. وفي هذه العينة بالذات تصير موسم عيد واتذكر عندما كنا صغارا نقوم بنصب الشراك والصّارة والشبكة وعود الملود لاصطياد العصفور هذه الطيور التي تخصصت في بحت العيش المزروع في الارض بعد رمي بذور الذره على الارض بعد ان تتم عملية الزراعة بالسلوكة والجراية ولذلك كنا نقوم بنصب الشرك لاصطياد هذه العصافير ومنعها من اتلاف الزرع.. فكنا نشرّك من الصباح وحتي المساء والحصيلة تون قبض كميات كبيرة من العصافير حيث كنا نشويها وبالصاج الكبير واحياناً عمل منها دمعة مدنكلة وطبخة لا تجدها في الفنادق خمسة نجوم وبعد الفترة تأتي عينة الطرفة البكاية وسميت بالبكاية لان امطارها تصب باستمرار وفي فترات أحياناً متقطعة وقد استشهد بها الشاعر اسماعيل حسن (احاكي الطرفة في نص الخريف بكاي) وكذلك عن الطرفة يقول اهلنا العرب (الطرفة ام دموع البختاها يشيل تيرابو وزوع) اي ان عينة الطرفة المعروفة بمطرها المدرار والمتواصل.. فالمزارع الذي لم يزرع في فترة الطرفة الا يشيل تقاويه ويلف بيها ويكون كالانسان الزايع الما لاقي ليه مكان.. ومن ثم تأتي عينة الجبهة هذه العينة المشهورة بامطارها الغزيرة والقوية التي تقوص في باطن الارض تكسّر الشقوق وتملأها تماما بالمياه حيث تخرج الافاعي والعقارب وتكثر فيها الحشرات بل الجبهة طقسها وجوها ساخن جدا الامر الذي يجعل كل الحشرات والحيوانات الموجودة في باطن الارض تخرج الى السطح وبعد الجبهة عينة الخرصان حيث تتميز هذه العينة بنزول الامطار المصحوبة بالثلح وكما يقول اهلنا العرب «البرد» بفتح الباء والراء.. وهنا تحضرني طرفة وللذين يعشقون القدرة التي يتصاعد منها بخار ابو الافوال وفي رواية ابوظريفة حبيب الشعب «الفول» حيث يطلقون عليه الخرصان وعلى وزن هذه العينة «الخرصان».. وهنالك عينة العوا والسماك (يامطر كفاك وارجع بي وراك.) واخر عينة في الخريف هي عِريج (بكسر العين) وفي هذه العينة يكثر فيها نزول الامطار كأن الخريف بدأ من جديد ويقولون ان عريج تقول لو الخريف برجع تاني انا برجعوا كفاية علي انها اخر عينة في الخريف خاتمة العين وختامه مسك. ونحن نتحدث عن الخريف وعين الخريف فلنتأمل هذه اللوحة الربانية التي ابدع فيها الإله صنعه تلك الرياح المتجولة من وجهة الى وجهة وذلك السحاب المحمول على الهواء المسخر بين السماء والارض الخاضع للناموس الذي اودعه الخالق هذه الوجوه..انه لايكفي ان نقول نظرية ما تقوله عن الاسباب هبوب الريح وعن طريقة تكون السحاب ان السر الاعمق هو سر هذه الاسباب.. سر خلقه الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الاوضاع التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الاسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة.. سر هذه المواقعات الذي يعد المعروف منها بالالاف والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة او ما صارت هذه السيرة.. سر التدبير الدقيق الذي يشئ بالقصد والاختيار كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير.