استمتعت بقراءة الكتاب القيم الذي أصدره الأستاذ دلدوم الختيم أشقر محمود المحامي بعنوان إفادات للذكرى والتاريخ، ويتكون من جزءين ويقع الجزء الأول في مائتين وأربعين صفحة، ويقع الجزء الثاني في مائة وأربعين صفحة، أي أن الكتاب في مجمله يقع في ثلاثمائة وثمانين صفحة وهو إضافة طيبة للمكتبة السودانية ويماثل من حيث القيمة والمحتوى الثر المفيد، المذكرات التي صدرت وتؤرخ لتاريخنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مثل مذكرات خضر حمد، والديموقراطية في الميزان للأستاذ محمد أحمد محجوب، والمسيرة من كرمكول إلى الخرطوم للأستاذ أمين التوم، ومذكرات الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو، ومذكرات الشيخ علي عبد الرحمن ... إلخ. والأستاذ دلدوم من مواليد العام 1945م في جبل الكاشا محلية لقاوة إدارة السنوط - قرية جوك السواني وسط مناخ السافنا الغنية وأشجارها الباسقة وأرضها السندسية الخضراء ومناظرها الجذابة الخلابة. وتحدث عن طفولته الباكرة وألعابهم ولهوهم البريء. وكانت فرص التعليم ضيقة وتكاد تكون شبه معدومة في بعض القرى، ولم تكن بقريتهم مدرسة ولذلك أردفه والده الشيخ الختيم معه على ظهر جواد أصيل اسمه «اللحو» وذهب به وألحقه بمدرسة صغرى جديدة افتتحت في مجلس ريفي الفولة في العام 1951م، وصحبهم في تلك الرحلة ابن عمه أبو ستة جودة أشقر. وفي العام التالي قرر الضابط الإداري نقل المدرسة لمورد ماء - سرف أم كريشة التي تقع على بعد ستة وثلاثين كيلو متراً من موقع المدرسة القديمة، ولك أن تتخيل تلميذاً في السابعة من عمره يدرس بمدرسة تقع على بعد عشرات الكيلومترات من منزل أهله وبعد عامين انتقلوا من تلك المدرسة الصغرى لمدرسة لقاوة الأولية وأحرز التلميذ دلدوم المرتبة الأولى. وفي العام 1957م اجتاز امتحان الدخول للمدارس الوسطى وقبل بمدرسة رجل الفولة الوسطى التي كانت تقع على بعد مائة وعشرين كيلومتراً من قريتهم. وقبل أربعة أيام من امتحانات الدخول للثانوي في العام 1961م أصيب التلميذ دلدوم بكسر في يده وكان يحرك إصبعيه الإبهام والسبابة مع ألم يحس به في البنصر ومع ذلك أدى الامتحانات وعند ظهور النتائج أذيع ضمن المائة الأوائل على مستوى السودان وقبل بمدرسة خورطقت الثانوية التي قضى بها أربعة أعوام وبعد حصوله على الشهادة الثانوية بتفوق التحق بكلية الحقوق جامعة الخرطوم. وقبل ظهور النتائج وذهابهم للجامعة أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية في العام 1965م وتفرغ للعمل مع المرشح الأستاذ سعيد فرج الله الذي أعجب به وعند فوزه ممثلاً للحزب الوطني الاتحادي ذكره بالخير للرئيس إسماعيل الأزهري الذي استدعاه وتعرف به وأضحى على صلة حميمة به وبقادة الحزب الآخرين، وأضحى رئيساً للطلبة الاتحاديين بالجامعة وكان إسلامياً فكراً وسلوكاً ولذلك كان يحالف الإسلاميين في الانتخابات، وكان من الرافضين لأداء رقصة العجكو بالجامعة في تلك الليلة الشهيرة. وعند الحكم بالإعدام على الشهيد سيد قطب والشهيد د. عبد القادرعودة وصحبهما الأبرار كان الطالب الجامعي دلدوم من قادة المظاهرة التي خرجت تندد بهذا الظلم والجرم وتهتف بأسماء الشهداء. وكان الأستاذ دلدوم نشطاً ويشارك في المنتديات الثقافية والأدبية والشعرية ويساهم بالكتابة في الصحف الحائطية بالجامعة وكان من المبرزين النوابغ وحصل في الامتحانات النهائية على تقدير ممتاز في جل المواد، وكان من المفترض أن يحصل على درجة الشرف ليصبح معيداً بكلية الحقوق ولكن أحد الأستاذة السودانيين كان حاقداً عليه وقديماً كان في الناس الحسد وترصده ومنحه درجة المرور في مادته ولولا احساس ببعض الحياء لجعله من الساقطين في مادته وعند ظهور النتيجة في «البورد» تقبل الأستاذ هذه النتيجة على مضض ولكنه لم يحتج لدى العميد ولم يسمع الأستاذ أي كلمة في غير موضعها، ورشحه عميد الكلية وقدمه للأستاذين عبد الله الحسن المحامي وعبد الوهاب أبو شكيمة المحامي ليعمل بمكتبهما محامياً تحت التمرين وكان عند حسن الظن به. وقبل تخرجه من الجامعة بأشهر كاد أن يتم القبض عليه في عهد مايو الوليد آنئذ لنشاطه السياسي الملموس كرئيس للطلبة الاتحاديين بالجامعة ولكن تدخل العميد «م» محمود حسيب وزير المواصلات حال دون هذا الاعتقال، وذات ليلة في الأشهر الأولى لعهد مايو دعاه الاستاذ موسى المبارك الحسن وزير الصناعة في منزل صهره سليمان رحيمان بالقرب من شارع الأربعين بأم درمان ضمن آخرين من بينهم الأستاذ اسماعيل الحاج موسى الذي تخرج حديثاً من الجامعة، والخريج الاستاذ مكاوي عوض المكاوي وحضر اللواء جعفر نميري رئيس مجلس الثورة وأدار معهم حواراً، وتحدث الأستاذ دلدوم الذي كان في أخريات أيامه بالجامعة وأوضح أنهم يتحفظون على وجود الشيوعيين داخل الحكومة ويرفضون محاولة سيطرتهم عليها. وفي الكتاب تفاصيل داخلية ومعلومات غزيرة عن مراحل دراسته المختلفة منذ المدرسة الصغرى مروراً بالمدرسة الأولية والمدرسة الوسطى والمدرسة الثانوية حتى تخرجه في جامعة الخرطوم في العام 1970م. وقدم وصفاً تفصيلياً للعملية التعليمية والتربوية وكافة المناشط الثقافية والرياضية المصاحبة في تلك المراحل .... وللحديث بقية.