كما أشرنا أمس فإن الجذور العميقة والبعيدة المدى للحراك السياسي السوداني الجاري في الوقت الحالي، والذي يبدو وكأنه بمثابة إعادة للماضي في الحاضر، إنما تعود في ما تنطوي عليه وتشير إليه في بعدها المحوري وجوهرها الاساسي والرئيسي إلى الحالة التي كانت سائدة وطاغية وشاخصة وصارخة وماثلة في المرحلة الاخيرة لنظام الزعيم الوطني الراحل الرئيس المرحوم جعفر نميري، وهي الحالة التي تمثلت حينها في تطورات وتحولات جاءت متلاحقة، وفرضت وطرحت نفسها بحدة شديدة الوطأة بعد أن تبلورت وتفاعلت وترتبت على بعضها البعض، وأدت إلى تأثيرات فاعلة ومتبادلة ومتداخلة على المستوى الوطني الداخلي، وفي الأصعدة الإقليمية والدولية المؤثرة والمتأثرة والمعبرة عن المحيط العالمي والصراع الحضاري المتصل بالدوافع والعوامل الكامنة فيه والمحركة له بصفة ربما قد يمكن ويجوز القول إنها مازالت مستمرة ومتواصلة منذ تلك المرحلة وما جرى بعدها منذ ذلك الحين وحتى الآن في السودان. وفي سياق مثل هذا الإطار للرؤية المتأملة والمتمعنة في العوامل والدوافع الكامنة والفاعلة والمتفاعلة والمتنافسة والمتصارعة والمتسابقة، فإن الذي يجري على المسرح السياسي السوداني في الوقت الحالي، وعلى النحو الذي يتم التعبير عنه وتنفيذه وتطبيقه وتجسيده على أرض الواقع، إنما يأتي كامتداد طبيعي وتلقائي للمنطلق المركزي الذي بدأ منه، ويعود إليه ويستند إليه ويدور حوله في بعده المحوري والجوهري، وذلك على النحو الذي حدث في المرحلة الاخيرة لنظام الزعيم الوطني الراحل الرئيس المرحوم جعفر نميري عندما برزت حينها عام 1983م الحركة الشعبية المتمردة التي انطلقت من الجنوب السوداني بدعم داخلي وإقليمي ودولي وقف مسانداً لها ومنخرطاً معها لدى إقدامها على القيام بالمناهضة المسلحة لذلك النظام، وإعلانها لذلك عبر إذاعة حصلت عليها من النظام الماركسي السابق في الجارة الشقيقة إثيوبيا آنذاك بتاريخ مايو 1983م. وبينما اختار اليسار السياسي والعلماني بقيادة الحزب الشيوعي السوداني أن يمضي في الرهان منذ ذلك الحين على الحركة الشعبية المتمردة والقوى الأجنبية المعادية للسلطة المركزية الحاكمة في السودان، وهي القوى المنخرطة في تقديم المساندة للمناهضة المسلحة والمتمردة على هذه السلطة منذ ذلك الحين وحتى الآن.. فقد كان من الطبيعي أن يكون التوجه البديهي للتيار الإسلامي السياسي ممثلاً في الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة، هو أن يمضي في الخيار الوطني، ويختار التصدي للحركة الشعبية والاتجاه العلماني الداخلي والخارجي المحرض لها في تمردها، والذي يتضامن معها ويسعى للاستفادة منها بصفة عامة، وكما حدث بصفة خاصة بعدما سعى الزعيم الوطني الراحل الرئيس المرحوم جعفر نميري من جانبه إلى استخدام الإسلام السياسي، وقام بالمضي في تقنينه وتطبيقه وتجسيده وتنزيله على أرض الواقع الفعلي والعملي، وذلك عبر إصداره ما يسمى القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية وأحكامها ذات الطابع العقابي التي بدأ بها لدى شروعه في ذلك بطريقة جاءت مباغتة وكانت بمثابة مفاجئة في سبتمبر 1983م. وهكذا ومثلما ذكرنا أمس، ورغم أن تلك التطورات المتسارعة التي جاءت متفاعلة ومتلاحقة على المسرح السياسي السوداني لدى بروزها على هذه الشاكلة المشار إليها في عام 1983م، إضافة إلى العوامل الأخرى التي تداخلت معها وتمثلت بصفة خاصة في الأزمة الاقتصادية التي صارت طاحنة حينها، كانت قد أفضت في خاتمة الطواف ونهاية المطاف إلى الاطاحة بالنظام الوطني للحكم السوداني المركزي بقيادة الرئيس الراحل المرحوم جعفر نميري عام 1985م.. فإن ما جرى أثناء المرحلة الانتقالية اللاحقة لذلك، والانتخابات العامة التي جرت بعدها، وأسفرت نتائجها عن حصول حزب الأمة وكيان الأنصار بزعامة رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي على الأكثرية ووصوله إلى سدة القيادة في الحكومة المنتخبة، فإن التأثيرات الناجمة عن المناهضة المسلحة والمتمردة على السلطة الوطنية الحاكمة من جانب الحركة الشعبية من جهة، والمواقف الوطنية الصامدة في التصدي لذلك من جانب الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة من الجهة الأخرى، ظلت هي العوامل الفاعلة والدافعة للتطورات المتعاقبة والمتتابعة منذ ذلك الحين وحتى الآن، ورغم ما أدى إليه ذلك من انفصال جنوب السودان عن الشمال فإن هذه الآثار مازالت قائمة وفاعلة ودافعة للحراك السياسي الجاري في الوقت الحالي وكامنة فيه، كما نرى ونواصل غداً إن شاء الله.