وعند الظهيرة زار ابو داؤد واثنان آخران من جهاز الموساد منير روفا واصحطباه إلى شارع شاؤول.. حيث يقع مكتب رئيس مجلس الوزراء في المبنى الرئيسي الجديد لجهاز الموساد، وكان بانتظاره رئيس جهاز الموساد مائير عاميت وكبار مستشاريه وضباطه. لم يناقشوه في مسائل فنية تتعلق بعمله في العراق، او بمسألة هروبه إلى اسرائيل بطائرته، إنما انحصر حديثهم معه حول الطقس الرائع في تل ابيب وعيد البوريم الذي احتلفوا به منذ ايام وعيد البوريم: اشهر الاعياد في اسرائيل، ويبدأ الاحتفال به منذ صباح «13» مارس وحتى «15» مارس، ويصل الاحتفال إلى ذروته حيث الرقص وشرب الخمر طوال الليل في الشوارع. وما يصاحب ذلك من فسق ومجون بشكل علني وفي حماية الشرطة، ويرجع هذا العيد لايام السبي البابلي لليهود، حيث استطاعت استير اليهودية انقاذ اليهود بحثها الملك اليابلي على العفو عنهم. وكان هذا هو موضوع نقاشهم مع منير روفا في مقر الموساد في شارع شاؤول اول الامكنة التي زارها بصحبة ابو داؤد، ثم تطرق النقاش مع منير إلى الاقليات في الدولة العبرية وكيف ان المسيحيين العرب هم ثاني اقلية من حيث الكثافة العددية في اسرائيل اذ يبلغ عددهم «13» الف مسيحي، يشكلون حوالى نصف سكان الناصرة وثلثي العرب في حيفا.. وتبعاً لتوصيات علماء النفس في الموساد الذين قرأوا ملف منير روفا وراقبوه منذ ان دخل الفيلا المعدة لاقامته ورأوا من خلال الكاميرات تفاصيل سلوكه في حجرة النوم مع ليزا برات، وهذا بالطبع ليس اسمها الحقيقي، ألا تفارقه للحظة وان تحيطه بعواطف جياشة زائدة عن المعاملة السابقة. فهو يمر بمرحلة نفسية عصيبة هو احوج فيها إلى الحب والامتزاج اكثر من اي وقت مضى.. وبالطبع لم تكن ليزا برات المدربة الذكية تجهل ذلك اذ عملت باجتهاد على اغراقه بمشاعر الحب والعاطفة الملتهبة المشبعة بالعطاء الجنسي والثقافي، وكان مدخلها الوحيد إلى عقله وقلبه قصة يُتمها «بضم الياء» المختلقة، كانت سريعاً ما تحرك مشاعره وتثير فيه نخوة الرجل الشرقي الأكثر عاطفة فتبعده عن قصة انها خدعته. ثم يعود مجدداً داخل نفسه فيستعرض شكه فيها وفي اخلاصها له. إن التحليلات النفسية التي اعتمدتها اسرائيل عن العرب، خلصت إلى أنهم اناس اكثر عاطفة من بقية الشعوب الأخرى.. واكثر ضعفهم امام المرأة، ايضاً يثقون بالآخرين بسرعة ويتبسطون معهم بلا تحرز، ومن السهل اقتحام مشاعرهم واثارتها. وكان لدموع ليزا برات وهي تحكي لروفا عن معاناتها النفسية المزيفة الاثر الواضح في قوة ارتباطه بها، حيث يتوه تماماً أمام مشاعرها. فكان تأثره هذا مدعاة لأن يفقد تركيزه وينساق خلف اوهام لا يستقر امامها ولا يستطيح كبح شهواته المريضة.. فقادته بسهولة إلى طريق السقوط. ودقق عاميت النظر الى ساعته التي اشارت عقاربها إلى السابعة ونصف مساءً عندما سأله رئيس الوزراء: هل وضعتم حلول أكيدة؟ اجاب عاميت: لم نعتمد بعد خطة نهائية لتهريب عائلته.. وثق بأننا سنتدبر الامر بحكمة.. وعلق نائب وزير الدفاع شيمون بيريز ستكون اروع عملياتك يا عاميت.. فقال رئيس الاركان اسحق رابين بل اروع عمليات الموساد على الإطلاق وبزهو اضاف عاميت: في آخر حوار لي معه وهو يقصد «هادن» رئيس جهاز الCIA قال لي «انكم اناس كسالى».. ولسوف يفاجأ .. قال مردخاي هود قائد سلاح الجو: اخشى ان تعترضه الميج السورية فيضيع حلمنا إلى الأبد صاح به رئيس الوزراء: ما فائدتك يا مردخاي؟ استعلق الفشل على الآخرين؟ انت في هذه الحال تعرض نفسك للتحقيق والمساءلة والفصل النهائي من الخدمة العسكرية. فحماية الميج العراقية حتى وهي فوق الأجواء الأردنية، ستكون مهمتك انت وحدك!! تمتم مردخاي هود بكلمات مبهمة، عدنما دخل مدير مكتب رئيس الوزراء.. يخبره بوصول الضيف«روفا».. كان مكتب ليفي اشكول عبارة عن بناية حجرية من ثلاثة طوابق تقع بين بيوت متشابهة في «حي كيريا» وهي منطقة محصنة وتعتبر منطقة عسكرية في تل أبيب، وهي تضم هيئة الأركان العامة للجيش والمقر القديم للموساد «عين داؤد». وصل روفا برفقة كاروز وليزا وابو داؤد، وعند نهاية الممر المؤدي لمكتب رئيس الوزراء اصطف ثمانية عشر جنرالاً في شرف استقباله «يبدو أنه تقليد متبع وسبق ان استقبلت الجاسوسة المصرية هبة سالم بعشرة جنرالات امام مكتب جولدا مائير وكانت طائرتان حربيتان «ميراج» قد رافقتا طائرتها حتى المطار كما يحدث مع الملوك ورؤساء الدول.. وقف روفا عند الممر.. وادوا له التحية العسكرية ووقف ليفي اشكول يصافح الطيار العراقي ويعانقه بحرارة واجلسه بجواره وهو يقول له مبتسماً.. مرحباً بك في وطنك الثاني.. اراهن على انك ستحب اسرائيل اكثر من اي مكان آخر.. تولى رئيس جهاز الموساد بنفسه تقديم رجالات الجيش إلى روفا، بالاضافة إلى جون هادن مدير جهاز ال CIA في تل ابيب الذي دعي لحضور اللقاء. وبعد كلمات التعارف والترحيب، غادر الجميع المكتب إلى حجرة محاورة تاركين روفا وعاميت وابو داؤد مع رئيس الوزراء، فقال أبو داؤد متوجهاً بعبارته إلى الضيف الذي كان معروقاً يرتجف وعدتك سيدي النقيب في باريس ان تلتقي بالسيد رئيس الوزراء.. وهأناذا ابر بوعدي لك.. هتف ليفي اشكول في بشاشة انه ليوم طيب بالنسبة لي.. ملتفتاً إلى عاميت.. ان ما وعدتموه به أمر لا يقبل النقاش وهو ينظر إلى روفا: أعدك بشرفي..!! كن متأكداً.. فنحن نضحي لإرضاء اصدقائنا المحبين لاسرائيل.. كن متأكداً ونطقها هذه المرة «بالعبرية»: هايه نابطوح. سيدي الرئيس.. إن النقيب روفا رجل شجاع ومخلص.. لقد وثق بنا وستكون ثقته في محلها.. وسيلقي منا كل رعاية.. رد ليفي اشكول على عاميت: نعم.. نعم.. ونحن نقدر له شجاعته واخلاصه ايما تقدير.. وانضم الآخرون بعد ذلك اللقاء الذي استغرق نصف الساعة.