هذه إضاءة أدبية على بحث قيِّم أعدهُ الدكتور حسن صالح التوم عن الاتجاه الإفريقي في الشعر السوداني المعاصر، وصدر البحث في كتاب من مطبوعات «سولو للطباعة والنشر» بالخرطوم. ويقول الأديب الباحث الدكتور حسن صالح التوم في مقدمة البحث: ن الاتجاه الإفريقي في الشعر السوداني المعاصر لم يتوافر بقدر كبير في دول عربية إفريقية أخرى! لاسيما وأن تاريخ السودان القديم عبر العصور المختلفة شهد انفتاحاً مسؤولاً على الآخرين، وكان السودان ملتقى الحضارات والثقافات على عهد دولة «كوش» التي أدت بجدارة دور الناقل الثقافي بين إفريقيا ومصر القديمة، وبينها وبين حضارات الهند والصين.. ولذلك نستطيع أن نقرر أن البحث عن الذات قد بدأ في عهود ما قبل التاريخ، ولا يزال فيه جذوة من حرارة البحث من لدُن ذلك التاريخ حتى يومنا الحاضر.. ومن هنا يكتسبُ الموضوع أهميتهُ، خاصة وأن البحث عن الذات والهُوية لا يتناول قضية الدم أو اللون وحدهما، بل يشملُ مواضيع أخرى كاللغة والدين والعادات والتقاليد والموروثات الأخرى، ولذلك سيكونُ من أهداف هذا البحث، تأصيل الفكر السوداني الداعي لتأكيد العلاقة الوطيدة بين السودان وإفريقيا. ولاستجلاء هذه الحقيقة عن طريق تحليل الشعر، فإننا لابد أن نجد إجابة للأسئلة: هل قدم شعر الاتجاه الإفريقي أفكاراً ومضامين جديدة للشعر السوداني؟ وهل أضاف سمات فنية جديدة؟ وهل حقق أهدافه وشارك مشاركة إيجابية في بناء علاقة راسخة مع إفريقيا، وفي إرساء دعائم السلام محلياً وعالمياً؟ وكل الإجابات عن هذه الأسئلة من واقع البحث في مصلحة شعر الاتجاه الإفريقي! وقد اعتمدنا في تبيان ذلك على المنهج التاريخي في البحث مشفوعة بالمنهج التحليلي، ذلك أن الدراسة قد حتمّت جمع المعلومات الوفيرة عن ظاهرة الاتجاه الإفريقي في الشعر السوداني المعاصر وتحليلها، مع كشف المؤثرات والدوافع لهذه الظاهرة. وقد صاحب بروز الاتجاه الإفريقي في الشعر السوداني المعاصر، أحداثًا جسيمة اكتنفت القارة الإفريقية، وأثرّت فيها تأثيراً عميقاًَ، ولم تغادرها إلا وقد خلّفت فيها أخاديد وأغواراً عميقة. واعتمد الاتجاه الإفريقي في تكوينه وظهوره إلى حيز الوجود، على مرتكزات مهمة، نذكر منها الآتي: المرتكز السياسي الذي يتمثّل في صراع إفريقيا مع الاستعمار عبر حركات التحرير الوطنية.. والمرتكز الثقافي الذي يتمثّل في ظهور تيارات ثقافية إفريقية جديدة، وشعراء وكُتّاب أفارقة يتحدثون عن الإنسان الإفريقي، ويتغنون بمستقبل القارة، وظهر على إثر ذلك، شعراء سودانيون تفاعلوا وتبنوا ذلك الاتجاه وتوغلوا فيه. وفيما يلي نماذج شعرية من شعراء الاتجاه الإفريقي من السودانيين في مجال الدعوة إلى التحرر من الاستعمار، والتضامن مع الشعوب الناهضة، وفي مجال التوجه الثقافي الإفريقي والتزامهم به. وقد شكّلت قضية الاستعمار في إفريقيا نبعاً دفّاقاً ثراراً للشعراء الأفارقة يغرفون منه ملياً كيفما شاءوا، وأمدتهم بإلهام وحيوية لا تنقطع.. وهذا هو الشاعر السوداني محمد الفيتوري رائد التغنّي بإفريقيا، يصوّر لنا هذا الإلهام الذي أبدع أغاني إفريقيا بقوله: لم تمت فيَّ أغانيّ فمازلتُ أغنّي لك يا أرض انفعلاتي.. وحزني للملايين التي تنقش في الصخر وتبني والتي مافتئت تبدعُ.. فني! وقد أدرك الفيتوري وزملاؤه الشعراء واجبهم في مساعدة شعوب قارتهم لدحر الاستعمار، ولذلك، فهم يشحذون الكلمة كما تشحذ السيوف المسلولة من أغمادها ويطلقونها في وجوه أعدائهم ذخيرة مدمّرة، ويقول الفيتوري عن إفريقيا: أنا حبي خالد.. رغم الردى أنا حر رغم قضبان الزمن إن نكن سرنا على الشوك سنينا ولقينا من أذاه.. ما لقينا إن نكن عُراة.. جائعينا أو نكن عشنا حفاوة.. بائسينا إن تكن قد أوهت الفأس قوانا فوقفنا.. نتحدى.. الساقطينا إن يكن.. سخّّرنا.. جلاّدنا.. فبنينا.. لأمانينا.. سُجونا.. ولقد ثُرنا.. على أنفسنا.. ومحونا وصمة الذلة فينا! والشاعر محيي الدين فارس أبصر القارة الإفريقية مارداً جبّاراً استطاع كسر قواقعه، وانطلق بهمة عالية، وعزيمة قوية، متحرراً من قوقعته، ولذا، فإنّ «محيي الدين فارس» أضحى يدعو إفريقيا لتدق الطبول لقدوم الصباح: إني كسرت قواقعي.. وغداً سأطلق للرياح زوابعي إفريقيا دقي طبولك للصباح الماتع لا .. لن تعود إلى الوراء.. طلائعي! والشاعر محيي الدين فارس محب متيم بقارته الواعدة المعطاءة بالخير العميم، وظلّ ثائراً غاضباً طيلة حياته لايحيد عن إعلان رفضه وإدانته للاحتلال الاستعماري البغيض في إفريقيا قائلاً: أنا لن أحيد.. أنا لست رعيداً يُكبّل خطوه ثقل الحديد وغداً نعود.. للقرية الغنّاء للكوخ الموشّح بالكروم ونسير فوق جماجم الأسياد مرفوعي البنود.. وتزغزّدُ الحارات والأطفال ترقص والصغار لا لن أحيد عن الكفاح ستعود إفريقيا لنا وتعود أنغام الصباح! بأسلوب عاطفي «رومانسي» يصوّر لنا الشاعر الكبير محمد أحمد محجوب مشهداً من واقع البيئة السودانية الإفريقية عند وصفه لفتاة جميلة حسناء قائلاً: إني لأطمعُ أن أراك فاتنتي بحديثك المعسول كالأحلام وأرى البساطة والجمال تعانقا وأرى الطبيعة مصدر الإلهام قد عشت في الصحراء زهراً ناضراً بين الرمال مفتحّ الأكمام وسبحت فوق سمائها صدّاحة ببدائع الأشعار.. والأنغام وغدوت بين أسودها وظبائها هدفاً لكل صبابة.. وغرام أوحيت للرسام أروع صورة كادت تخلّده على الأيام! ومن أدلة واقع البيئة السودانية الإفريقية ما ذكره الشاعر محمد أحمد محجوب في قصيدته من مشاهد الصحراء والرمال والزهر والظباء والأسود.. وهذه المشاهد توجد في حظيرة الدندر المحميّة في السودان. وفي قصيدة بعنوان «شنق أمبادو» بديوان «غابة الأبنوس» عبّر الشاعر صلاح أحمد إبراهيم عن حزنه وغضبه لحكم الإعدام الذي أصدره المستعمر الأجنبي ضد المناضل الإفريقي «أمبادو» وهو أحد الذين نكّل بهم المستعمر في كينيا وكان من أعضاء حركة «الماوماو» المقاومة للاستعمار الأوروبي في إفريقيا. وقال الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في وصف ظروف القهر والاضطهاد التي عانى منها أشد المعاناة البطل الإفريقي «أمبادو» وفي الفجر جروك لساحة في السُوق يدفعك السجّانُ بالساعد الموثوق وجمعت آلاف من شعبك المرهوق كالنمل كالديدان كالفلفل المحروق واسمعوا تقرير من لجنة التحقيق سطوره استهتار.. وعدلهُ تلفيق وإذا علا الصفيق تقدم الجزار في لحظة التطبيق فأحكم الأمراس في عُنقك المعروق! وقد أبدى الشاعر صلاح أحمد إبراهيم أسفه وحزنه للأحداث العدائية «اللا انسانية» التي تمارسها بعض الدول الأوروبية ضد الشعوب الإفريقية، قائلاً: عصرنا المعجز بالعلم والفن وقدرات الصناعة عصر إنسانية الإنسانية الإنسان، عصر المدنية يُذبح الإنسانُ في إفريقيا أعزل في الليل كما تذبح خرفان الضحية! وفي قصيدة «العودة إلى سنار» أشار الشاعر محمد عبدالحي إلى اختلاط الزنج بالعرب في السودان، وأن الهوية السودانية.. تزدان رونقاً وألقاً بهدى الكتاب والمئذنة، وبضياء الشمس والنجوم، وشجاعة السوداني في الحرب ضد الأعداء، وهو يذود عن حياض الوطن بالرماح أو .. بأسلحة أخرى، ويقول الشاعر محمد عبدالحي في هذا الصدد، بأسلوب رمزي: سنار تسفر في بلاد الصحو جرحاً أزرقاً.. قوساً.. حصاناً.. أسود الأعراف فهداً قافزاً في عتمة الدم معدناً في الشمس، مئذنة نجوماً في عظام الصخر، رمحاً فوق كل مقبرة .. كتاب ونختتم في الشعر السوداني المعاصر، بما قاله الشاعر السوداني الكبير محيي الدين فارس: أنا من إفريقيا أرض الكنوز.. لم تزل أعماقها مثل الرموز!