عندما حمل زوجي خرطوش المياه وخرج به إلى حيث سبيل المياه بالخارج، كرهت ذلك الخرطوش وودت لو قطعته أربا أربا، أفي هذه (الزيفة) العاصفة يحمل خرطوشه ويمضى الى سبيلها، ضغطت على أسناني وأنا أقول (سبيل الحبيبة)، فتحت الشباك لأستشف تدفق المطر، كان لا يزال مندفعا بشدة والرياح تدفع بالأمطار الغزيرة، رأيته يحاول فك طيات الخرطوش المتشابكة غير مبال بالأمطار التي عطنت ملابسه وأخذت تضرب في رأسه بشدة، خرجت الآهة من صدري وكدت أعض على بناني غيظا وأنا أراه في تلك الحال، رأيته يحمل الخرطوش ويمضي نحو حنفية المياه، كدت أن أقول له أترك مافي يدك حتى يتحسن الجو وتعال بجواري ولكن أبت أسناني أن تنطقها فقال لي بعينيه دون أن ينطق لسانه (لن أغيّر مواعيد هديتي لخدوج)... قلت في سري وأنا أسمع أصوات الرعد تفرقع الآذان (لعنك الله يا خدوج حية وميتة، دائماً ما كنت تقفين في طريقي، منذ صبانا الباكر وأنت تجدين كل ما تريدين، الشعر الطويل الذي تتسربل به الخيل، الوجه الطفولي بعينيه المتوثبة الذكية، كل ملامحك كانت تنطق حسناً كأنها لوحة فنان رسمها بمزاج عال وهو يحتسي قهوته المفضلة، طفرت تلك الذكريات على رأسي وأنا أنظر إلى زوجي الذي خطفته مني زوجته الميتة، ضغطت على كلمة ميتة بين أسناني حتى أؤكد لنفسي أنها ليست معنا في المنزل رغم أن زوجي يراها في كل زوايا البيت، حملت أغطيتي وسرت الى فراشي فقد بدأ الجو يبرد بفعل غزارة المطر الذي خف هديره، سمعت خطوه وهو يعيد الخرطوش الى مكانه بعد أن أمتلأ السبيل بالماء، اتجه الى الدولاب كان يظنني نائمة أبدل ملابسه بأخرى جافة، اتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه شايا يدفيء به نفسه، قفزت من فراشي، حملت منه براد الشاي، أخرجت طقم الشاي ذو اللون الذهبي، لا أعرف ما الذي دفعني لإخراج هذا الطقم الغالي من الأواني ربما كنت أريد أن أثبت له وجودي وأخرجه من دائرة الذكريات التي توترني، تعمدت أن أجلس بجواره وأنا أصفي الشاي من أوراق النعناع التي يحبه بها، قال بأسى واضح (ياه.. شاي بي نعناع.. خدوج كانت تترك النعناع دون تصفية)، كانت أنفاسي تتلاحق وأسناني تصطك بعبارة (خدوج، خدوج) وقع الكاس من يدي، سمعته يقول (انكشح الشر)، ثم استرسل وكأنه استشف ما يغلي به صدري فأضاف (دعيه سأسكبه وحدي)، أراد أن يسكب لي كاساً فرفضت، انزويت داخل أغطيتي، حاولت أن أنام، صورتها لم تفارق مخيلتي، تذكرت اليوم الذي خطبني فيه بعد موتها بثلاثة أعوام، قابلني في الطريق بدأ لي وكأنه كبر عشر أعوام على سنين عمره الحقيقي، كنت قد انتهيت لتوي من اكمالي للدكتوراه، ظننته قد جاء مهنئياً ضمن من جاء، ضغط على يدي وهو يقول (البشوفك يقول يا دوب متخرجة من الجامعة) أكملت أمي عبارته حتى تزيل أي حرج قد ينسرب الى أعماق نفسي (وهي بت متين، الإ القراية دي قالت الا تصل لي حدها)، اتجهت الى المطبخ وأنا استمع الى أمي وهي تكرر وصلتها الرتيبة (كل ما يجيها زول ترفضو وتقول عايزة تقرأ)، انتفض قلبي وأنا اتذكر رفيق طفولتي يختطف مني دميتي وأنا أجري خلفه وعندما أعجز عن اللحاق به يقذفها أعلى الشجرة ويطلب مني انزالها وعندما يترقرق الدمع في عيني يقفز الشجرة بسرعة ويضربني بالدمية ويجري ... مرت تلك الذكريات على راسي وانا أصب له كاس العصير بعد أن سمعته يطلب يدي من والدي وكان قد تزوج بخديجة الفتاة التي خطفته مني ونحن على أعتاب المراهقة، جمالها ومرحها كانا كافيين بتحويل انظاره عني أما أنا فأجبرت والدي بترك الحلة بعد زواجه وأنكفات في الدراسة بثقلي كله، ورغم انشغالي الكلي بالدراسة الا أن أخباره كانت تأتيني دون أن اسعى لمعرفتها عرفت أنه أنجب طفلة وحيدة عانت ويلات المرض ولم يترك لها والداها بابا لم يطرقاه لعلاجها ولكنها ماتت بعد بضع سنوات ثم عاش الزوجين فترة دون أطفال ثم سمعت بموت خديجة.. التفاصيل التي سبقت زواجي كانت عادية، لم أرتدي الفستان الأبيض الذي كنت اتوق للبسه، ذهبت الى إحدى محلات فساتين الزفاف الراقية كنت متسربلة بسوادي فاذا بفتاة المحل تقول لي (الأفضل لك أن تأتي بالعروس لا أن تختاري بدلا عنها) جريت الى عربتي، اتصلت به والدموع تملأ عيني حكيت له ما جرى لي سريعا، رد ضاحكا (يا شيخة.. هسع أنا افتكرتك غيرت رأيك مني..) أضاف بصوت بدأ لي حزينا (أنا ذاتي ما داير زفة وحفلة وهيصة) العمر لم يعد يحتمل ثم أكمل عبارته وكأنه يحدث شخصاً آخر (كلو زمان سويّنا) تذكرت تلك الحادثة وأنا اتدثر بأغطيتي واتقلب في فراشي ذات اليمين وذات اليسار، لمت نفسي كان ينبغي أن أعرف عند حدود تلك الحادثة أن الرجل لا يعيرني اهتماماً ولكن قلبي كان يقودني، أنكفات على جسدي حتى أبدلته لون ذهبيا، تركت طلبتي وكتبي وأبحاثي حتي نظارتي الطبية ما عدت ألبسها، صديقتي هند عندما لمحتني في تلك الحال أطلقت صافرة حادة وهي تلحظ التغيير الكبير الذي طرأ على شكلي وجسدي وأضافت لو رأءك صاحبنا وقتها لما تجاوزك الى أخرى، نظرت في المرآة كان الفستان الكبدي قصيرا ومتناسقا على جسدي حتى كدت أبدو كملكات الجمال تركت شعري يتناثر على ظهري. طفرت الدموع من عيني وانا أتذكر فستاني الكبدي، قذفت به في خزانة المنزل وأنا أكاد أمزقه وأنا أحكي لهند ما حدث لزوجي وهو يراني لأول مرة بذلك الفستان، لم ير التغيرات التي انتظمت الجسد الذي خرج لتوه من غبار المكتبة وبراثن المراجع والكتب الصفراء، لم يلحظ شيئاً من الوضاءة والبهاء التي علت وجهي، نظر الى الفستان قلب في دولاب زوجته، قلّب بين صور كثيرة، صورتها في الحديقة، صورتها وهي تضع الحناء، صورتها وهي تحمل طفلتها، عشرات الصور، ثم سل صورة من بين عشرات الصور كانت ترتدي فستانا كبديا قصير يصل حتى فخذيها، كانت تقف في باب المطبخ، نظرت الى الصورة والى نفسي، كأنني هي، نظرت الى عينيه كانت مليئة بالدموع، ذهبت الى الحمام، مكثت طويلاً، خلعت الفستان ووطأته بقدمي.. تقلبت في فراشي ذاك، ذكراتي تجتر الأحداث، كان المطر قد هدأ صوته، غفوت قليلاً، رأيت خدوج أمامي بشحمها ولحمها، كانت تضفر شعرها الذي استطال حتى وصل ركبتيها، نظرت الى شعري قبالتها كان قصيرا مجعدا، نظرت الى ساقيها الممتلئتين، جعلت أحدق في رسوماتهما، كانا داخل رسومات الساقين، مرة وهو يحملها ويطير بها ومرة وهي تجلس في ارجوحة، نظرت في ساقها الأخرى كانت ترتدي ثوباً أحمر وتضع جدلة على رأسها كان بجوارها يرتدي جلباباً وعمة، دققت في باطن القدم الصور كانت كثيرة وباوضاع مختلفة كنت أدقق في صوره لعلني أجد صورة يكون فيها لوحده لعلني أكون بجواره، نظرت ونظرت هاهو لوحده، يا الله وها نذا هنا، كنت بشعرات متطايرات ووجه ذابل، نظرت في باطن القدم كانت صورتها واضحة جلية، كانت تمد لي لسانها، لم استطع التدقيق جيدا فقد رفستني عندما رأته يرمقني بنظرة فتركني وهرول نحوها.. قمت من نومي مذعورة كان الساعة نحو التاسعة والنصف، الجو كان صحو بعد أمطار الليلة السابقة انطلقت أعدو الى عربتي وأنا اتذكر مواعيد محاضرتي وجدت أطفالا يرشون بعضهم بمياه السبيل، كدت انهرهم حتى تطوع أحدهم وهمس في أذني (خالتو.. شايفة الولد داك البتكلم مع البت ديك) أومأت له براسي (شخبط ليك عربتك بطين المطرة)، نظرت نحو زجاج السيارة الخلفي .. كان به قلبان مرسومين بخطءرديء، أمعنت النظر في داخلهما كانت فيه صورة خدوج بهية ناضرة كانت تلوح لي بيدها وتمد لي لسانها ثم تحتضنه ويمضيا.