تابعت باهتمام ما يثار خلال الأيام الماضية حول حج هذا العام والانفاقات التي صاحبته وأوردتها بعض أجهزة الإعلام، والملفت كان ما نشر بأن المجلس الوطني ينوي استدعاء المدير العام للحج والعمرة، فتساءلت عما إذا كان البرلمان مخول له استدعاء المديرين العامين، وهو المفوض بالقانون أن يستدعي ويسائل الوزراء وليس المديرين العامين أو الموظفين؟!! ولكن قبل أن أكلف نفسي عناء البحث كثيراً استدرك البرلمان وتراجع عن الخطوة التي لو حدثت كانت قد تبدو غريبة!! وأثناء بحثي عن الحقيقة والأسباب التي أدت لكل تلك الضجة حول هذه المؤسسة المعنية بالإشراف على شؤون شعيرة مهمة في حياة الفرد المسلم، قمت بالاستماع لجلسة مناقشة خطة وزارة الأوقاف والإرشاد التي قدمها وزيرها، وكان قد ترأس الجلسة رئيس الجمهورية المشير عمر البشير، واستمعت بتروٍ لحديث الرئيس الذي أثنى على التطور الكبير الذي طرأ على مؤسسة الحج والعمرة، وأشاد بذلك بصورة كبيرة، ولم أرصد ملاحظة للسيد إلاَّ تلك التي تتعلق بالتيسير على الحجاج وتسهيل إجراءاتهم بصورة تمكنهم من أداء الفريضة، وأنا أبحث عن الحقيقة ذهبت في الاتجاه الآخر واستمعت إلى أصحاب الشأن السعوديين وهم يتحدثون عن البعثة السودانية، فكانت إشادة وزير الحج السعودي بندر بن محمد بن حجاز، ثم الحديث الطيب الذي يحمل فخراً للسودان الصادر عن رئيس المؤسسة الأهلية للحج السعودية فيصل بن نوح. وكان أيضاً الحديث اللافت للسيد رئيس المؤسسة الأهلية للإدلاء السعودي الدكتور يوسف حوالة، فقد تحدث عن تطور البعثة السودانية وقالها بالحرف: (إنني لا أمل الحديث الطيب عن إدارة الحج والعمرة السودانية وهي تقوم بعمل جليل ومنظم تجاه ضيوف الرحمن). وحتى الآن لم أجد مبرراً كافياً للحملة المضرية التي شنتها بعض وسائط الإعلام ضد إدارة الحج والعمرة، ولم يبرز الذين قادوا الحديث سوءات تدين هذه المؤسسة، غير أن الرسالة التي يفهمها أي لبيب وصاحب بصيرة، أنهم يريدون أن يقولوا إن الإدارة والمؤسسات الحكومية قد فشلت في إدارة شأن الحج ويطالبون بتحويل الأمر للقطاع الخاص (التجار)، تخيل عزيزي القارئ مؤسسة دينية تعبدية مثل الحج والعمرة عندما تحال للتجار وتحول إلى مؤسسة ربحية، هل سيكون التاجر معنياً بعملية تدريب وتأهيل الحجاج، هل سيضع تطوير المناسك أولوية في خطته أم سينشغل بجمع الرسوم والأتاوات؟ ولا أرى مبرراً للتراجع عن مسار تطوير هيئة الحج والعمرة والتي أصبحت مكان تقدير عند السعوديين الذين كانوا في الماضي يضربون المثل في النظام والترتيب بحجاج دولة ماليزيا، أما اليوم فيضربون الأمثال بالسودانيين، أما القطاع الخاص المتمثل في الوكالات فقد فشل في تنظيم عملية العمرة التي أصبحت مضاربات بين مُلاك وأصحاب الوكالات مثلها مثل أية سلعة في سوق اللَّه أكبر!!. على الحكومة أن تراجع تجربة الحج والعمرة عاماً بعد عام لمزيد من التجويد، وهنا أتساءل لماذا لم تؤسس الحكومة مركزاً متخصصاً في أبحاث الحج والعمرة؟!! هذا المركز إذا عُمل سيعمل على نقل تجارب الدول الأخرى في هذا المضمار، فماليزيا مثلاً لديها تجربة متقدمة جداً في التنظيم والإشراف على عملية الحج والعمرة، فقد أسست بنكاً ادخارياً للحاج والمعتمر قبل ثلاثين عاماً، وأصبح مؤسسة تجارية واستثمارية ضخمة ورافداً أساسياً من روافد الاقتصاد الماليزي، فهو بنك ادخار للحج والعمرة، وكثير من العائلات الماليزية تقوم بوضع حساب في هذا البنك منذ ولادة الطفل، ويبدأ الاكتتاب بمبلغ رمزي ثم يتطور هذا المبلغ داخل هذا البنك الذي هو بمثابة مؤسسة تجارية استثمارية من أهم مشروعاتها رعاية شؤون الحج والعمل على توفير الخدمات للحجاج بشتى سبلها مع تقليل وتحقيق رسوم الحجاج، سيما المساهمين أو المودعين في هذا الصندوق الذي يعمل بشكل كبير في توفير الخدمات الاستثمارية والتجارية سواء أكانت عقارات أو أصول وغيرها من نوافذ الاستثمار، هذه التجربة الآن باتت مثالاً وأنموذجاً ناجحاً استفادت منه كثير من دول العالم على رأسها الإمارات وباكستان، ومن الدول الإفريقية السنغال وغانا ثم أندونيسيا في أقصى جنوب شرق آسيا، إذن لماذا لا تقدم السلطات السودانية على تأسيس صندوق الحاج والمعتمر؟! وفي تقديري إذا تم ذلك سيكون الترياق والحل لكثير من إشكالات الحج والعمرة، ويسهم هذا الصندوق في توفير العملات الصعبة لبنك السودان كما سيحسم مشكلة أو قضية التحويلات وهي قضية ظلت حاضرة في كل عام، ولم يوضع لها بنك السودان حلاً جذرياً، وإنني أرى إذا استخدمنا الشفافية التي عملت بها ماليزيا التي أسست أكبر مؤسسة مصرفية وهو بنك الحج، سنعمل على حل كل الإشكالات بعيداً عن هوى التجار وأصحاب الوكالات الذين يريدون أن يذهبوا بالقضية إلى حيث مبتغاهم وهواهم من خلال قيادة حملة حول موضوع الإطعام، وبحسب متابعاتي فإن موضوع الإطعام آخر حلقة في سلسلة بناء هرم التطوير في الإدارة العامة للحج والعمرة، وهو موضوع جديد، وغير هذا إنه من كماليات عملية الحج. وأختم بقضية مهمة وحسناً قد تخلصت منها إدارة الحج والعمرة، وهي حج بعض نواب البرلمان ضمن البعثة الرسمية، وهو وضع درج عليه كثير من نواب الولايات، بعضهم يغادر على حساب بعثة المركز وبعضهم يحجز مقعده ضمن بعثة ولايته، وهو وضع غير كريم ويتنافى مع شروط أداء شعيرة الحج التي تتطلب الاستطاعة، كما أن ذلك يشكل عبئاً على خزينة الدولة.. وأخشى أن يكون هناك أمرٌ مسكوت عنه جعل بعض نواب البرلمان يتحرشون بإدارة الحج والعمرة ويتصيدون أخطاءها وهناتها، فإذا حدث ذلك سيكون هؤلاء النواب غير مستأمنين على هموم وقضايا الغلابى، إذن هم ينتصرون لمصالحهم الذاتية ويغضون الطرف عن مصالح الذين انتدبوهم ليمثلوهم في قبة البرلمان.. ننتظر لنرى إلى أين ستنتهي الأوضاع.