وإزاء المعضلات التي لم يهضمها عقل جربوع، فإنه يقترح علينا الآتي: أن نُسقط من أحكام الإسلام وشرائعه كل ما لا نستطيع تطبيقه. فإن القرآن ليس صالحاً لكل زمان ومكان كما يزعم المفكرون الإسلاميون! هذا ما يدعه جربوع القائل: «لقد خاطب الحق رعاة الإبل، وتجار مكة، بما يفهمونه ويطيقونه، من نظم اجتماعية وعقابية واقتصادية، وأشار علينا بالنهج الذي يمكننا استخدامه، مما يناسب الإنسان في كل زمان ومكان، متى تغير الحال إلى حال، والإنسان إلى إنسان، والحضارة إلى أخرى»! وظن جربوع أن التشريع الذي نزل على ساكني الخيام، لا يصلح لساكني «الفلل» الحديثة. حيث قال: «إن الله يمن على العرب بأن مكنهم من صنع بيوتهم بأيديهم من الجلد الذي لا يشكل حملاً ثقيلاً عند التنقل والترحال .. ولا بد من التساؤل هنا: هل يمكن أن يخاطب الحق أو يمن على العرب بناطحات السحاب و «الفلل»، وإذا لم يكن ذلك جائزاً فكيف جاز أن تكون التشريعات الأخرى صالحة لكل زمان ومكان»؟! وهكذا يظن جربوع أن القيم والمعاني تتبدل كلما بدل الإنسان سكناه! فالسرقة مثلاً دنيئة ذميمة في مجتمع الخيام، يستحق مرتكبها القطع، أما السارق «المتحضر» الذي يسكن «الفلل» الحديثة، فإن سرقته لا تستحق نفس العقاب. وعلى ذلك فقس كل فعل من الأفعال، وكل تشريع من التشريعات، بل كل قيمة من القيم، وكل معنى من المعاني. فقد غدت المباني تشكل المعاني في فكر جربوع. ورحم الله من قال: ولطفُ الأواني في الحقيقة تابعٌ للطفِ المعاني والمعاني بها تسمو! نسخ القرآن ليس مستمرًا كما تدّعي يا جربوع ويتسلح جربوع بدعوى أخرى لمحاربة الشريعة الإٍسلامية، وهي دعوى نسخ النصوص القرآنية والحديثية. فهنا يتلبس جربوع بلباس علماء التفسير والحديث وأصول الفقه. ويفتينا بأن النسخ مستمر ولم ينقطع بإنقطاع الوحي. ولا يسمح جربوع لأي منا، بأن يختلف معه في هذا الفهم، فهو يطعن فوراً في عقيدة كل من يخالفه في ذلك. إن لجربوع لجرأة فظيعة حقاً يكفِّر بها كل من يختلف معه في الرأي، أي كل من يقول بانقطاع النسخ بانقطاع الوحي. ويقول جربوع: «قال بعض الجهال إن النسخ توقف بانقطاع الوحي، وما دروا أنهم بذلك يخرجون عن عقيدة التوحيد». ولقد كنا نخشى من قبل من «التخلف» الذي حذرنا منه جربوع في غلاف كتابه إذا قلنا بغير ما يقول. ولكن ها هو ذا يرمينا بالكفر الصراح إذا ما اختلفنا معه في الرأي! ولكن كفر جربوع هذا ما هو لحسن الحظ إلا محض الإيمان. فيا حظ من يكفره جربوع، وطوبى له وحسن ثواب! تغير الأحكام بتغير البيئات إن أحداً لا ينكر تغير بعض الأحكام بتغير بعض الأزمنة والأمكنة والأعراف. ولا ينكر أحد حدوث ذلك كثيراً في تاريخ الفقه والفتيا. فلقد كان الإمام الشافعي، رضي الله عنه، يعطي الأحكام الفقهية الميسرة في العراق، وذلك لما رأى من شماس القوم، وشدة عريكتهم هناك. فلما هبط أرض مصر، استبدل بتيسيره ذاك تشدداً وذلك لما ألفى من لين العريكة، والإقبال على الطاعة في مصر. ومما يعرف عن بعض فقهاء المشرق أنهم يسقطون مروءة وشهادة من لا يلوث عمامة على رأسه. ذلك في الوقت الذي كان فيه قضاة الأندلس لا يرون بذلك بأساً، ويقبلون شهادة حاسر الرأس، لأن المسألة كانت مسألة عرف، ونظرة اجتماعية لا غير. وهناك الكثير من أمثال تلك المسائل، التي يتغير فيها الحكم بتغير المكان، أو العرف. كما أن هنالك فقه الضرورة، الذي تنشأ عنه كثير من الرخص، فالمشقة تجلب التيسير، وكل ضرر يُزال، وكل ضرورة تقدر بقدرها. ولكن هذا فقه خاص، ولا يمكن أن يكون هو الأصل في كل حالة من الحالات، كما يريد ويدعو إلى ذلك المتفيقه جربوع. عوامُ التنويريين إن دعاوى جربوع عامرة بالقدح في الشريعة الإسلامية، وتلك مجرد نماذج منها دالة على غيرها. وهي كلها دعاوى متسرعة، يسهل هدمها وتدميرها. وكثير منها انهدم، أو اندثر وقبر، فعاد ليحييه ويبعثه من أحافيره هذا الجربوع. ولقد كان كتاب جربوع الذي أصدره عن سقوط الشريعة كما ادعى سيكون اسماً على مسمى حقيقي، لو سماه «هذا هو التخلف». وأرجع الضمير إلى محتويات كتابه البخس، الدال على ضعف في الثقافة العصرية، والشرعية، وركاكة في اللغة العربية، وانعدام للمنهج والنسق. ودل على أن صاحبه مؤلف من الدرجة العاشرة يحاول في لغة عوام التنويريين أن يعالج ما فشل في علاجه جهابذتهم، الذين أعيتهم المناطحة مع الإسلام، فاتبعوا سبيلاً آخر للالتفاف من حوله، ومحاصرته بحجج عقلية هي أرقى كثيراً من حجج الجربوع، ولكنها ليست بأقل بطلاناً منها. وقد وعدنا جربوع في صفحة الغلاف الأخيرة، بأن لديه عشرين كتاباً كبيراً تنتظر الطبع. ونحن نقول له: يكفي هذا. فإن كان هذا هو مستوى بقية الكتب الموعودة، فليس ثمة داعٍ لمزيد من استهلاك المطابع، والورق، والحبر، ووقت القارئ. فلقد كفاك وكفانا هذا الكتاب، وبه عرفنا مقاصدك كلها، وعرفنا نوعية الحجج التي تتذرع بها، كما تعرفنا على حجمك العقلي الحقيقي المحدود: فدع عنك الكتابة لست منها وإن سودت وجهك بالمداد! أما الإسلام وشريعته فباقيان أبداً. ولو أصدرتم في نقد الإسلام، ونقد أصوله وتشريعاته، عشرين ألف كتاب، لما انهدم منه شيء. ولو كان الإسلام ينهار بمثل هذا النقد لانهار من قديم الزمان. ولكن دين الله ماضٍ يطوي في مده الطاغي، وسيله العرِم، طغاة الفكر والسياسة والجاهلية الأكبرين. ولقد طوى من قبل المردة والفِيلة الكبار. ولن تثبت له اليوم الجرابيع والجرذان!