كان الرئيس جعفر نميرى رحمه الله يعزم على إجراء تعديل وزارى، حسب الرواية إلتى رواها لى واحد من الشخصيات التى كانت تلازمه، وكان شرطه للأسماء المقترحة عليه للحقائب الوزارية بأن يكونوا من أصحاب التأهيل العلمى المميز والسيرة الذاتية الحسنة، ولم يوجه بضرورة أن تقسم الوزارات بين مناطق السودان أو قبائله. وعندما فرغ الرئيس نميرى من إعداد التشكيل، وأشار إليه بعض المستشارين بأن هناك عدداً من الوزراء من منطقة واحدة، فلم يعره نميرى انتباهاً، لكنه علّق على تلك الملاحظة عند ما أذيعت أسماء الوزراء عبر الإذاعة السودانية بأن الأصل فى التكليف ليس الجهة، وإنما القدرة التأهيلية والسمعة الطيبة، وهكذا استطاع الرجل أثناء فترة حكمه أن يقضى على المناطقية والجهوية، وكان المعلمون والقضاة والمحاسبون والكتبة يتلقون أخبار نقلهم من الشمالية إلى جنوب كردفان، ومن جنوب كردفان إلى البحر الأحمر.. إلخ، دون أدنى اعتراض، الأمر الذى حقق وحدة وطنية لا مثيل لها، بل تداخلت ثقافات اهل السودان، ولم يميز النّاس آنذاك بين حلفا ونيالا وكادقلى وبورتسودان.. إلخ، حيث ينقل الشخص من أقصى الشمال إلى الشرق، أو الغرب فيطيب له المقام، ويتداخل مع السكان، ويكتب لأبنائه وبناته العيش فى ديارٍ ليست هى ديار الأجداد، لكنه يشعر بالسعادة والانتماء. والآن وقد ابتلينا، دون قصدٍ منّا بأمراضٍ وعصبيات، بتطبيق ما سميناه الحكم الفدرالى، دون أن نعى بأن الفدرالية لا تعنى القبلية، ولا الإثنية، فعلينا ونحن نطأ هذه الجمرة الحارقة بفعل أيادينا، أن نقدم على إجراء معالجات جريئة تتمثل فى الآتي: الإشادة بالتعديل الدستورى المزمع لمنح السيد رئيس الجمهورية حق تعيين الولاة شريطة ألا يكون الوالى من المنطقة، بل يكلف لحكم ولاية فى غير منطقته، وذلك تيمناً بما كان فى السابق من خيرٍ نتج عن الكشوفات الموحدة للموظفين بالدولة. إلغاء ما نتج عن الكليات الشورية للحزب للترشح للمجالس الولائية والمجلس الوطنى بحكم أنها كليات أصيبت بذات الداء، وأن يسند الأمر لرئاسة الحزب ليرشح للدوائر الجغرافية والقوائم النسبية، وذلك لأن الأحزاب القوية لا تأبه إلا للولاء الفكرى، وليست كانتونات أو محاضن للقبائل. وما عزم عليه رئيس الجمهورية بشأن تعيين الولاة ينبغى أن ينطبق على نواب المجالس التشريعية والوزراء، وأن يكون المعيار هو ذات المعيار الذى اتخذه الرئيس نميرى، فكان صائباً وفاعلاً فى اتجاه ضمان الوحدة الوطنية، والتمازج الثقافى بين مناحى السودان المختلفة، وهذا الأسلوب لا يقدح إطلاقاً فى النظام الفدرالى بشأن حقوق الولايات فى قسمة السلطة ولا نصيب أبنائها فى ملء الوظائف العامة، لكنه منهج لمعالجة الداء الوبيل الذى كان نتيجة لتحويل وتحوير الفدرالية إلى فدرالية إثنية وتقسيمات جهوية. والأصل الذى نعرفه عن المؤتمر الوطنى، بأنه حزبٌ له تاريخ، وقاعدة فكرية هى إلتى أهلته للانطلاق، ولم يكن الأساس هو جمع الولاءات من هنا وهناك، بقاعدة تقوم على شفا جرف هار، وهذا الجرف هو جرف العصبيات إلتى تقضى على الوحدة، وتدمر الكيان الواحد، وتقسمه إلى أجزاء متنافرة، وتنتقل الزعامة إلى بيوتات، بدلاً من زعامات فكرية، وأسس عقدية تضمن لنا البناء الراسخ المتين. ودعوتنا الأخيرة للسيد رئيس الجمهورية بأن لا للجهوية، لا للقبلية، لا للأحزاب القائمة على المناطقية، ولا بدّ أن نعلنها صريحة وثورة ضد هذا الثالوث المدمر والخطير بالمركز والولايات.