بدء اجراءات محاكمة الرئيس المصري السابق وابنيه بالاضافة الى وزير داخلية حكومته وستة من معاونيه بداية الشهر الجاري على خلفية التهم الموجهة اليهم في قضايا قتل المحتجين في ثورة 25 يوليو وتهم أخرى تتعلق بالفساد ونهب المال العام قد سجلت موقفًا يعد نصرًا قويًا لقوى الثورة ومن قبلها لقيم العدالة وحق الشعوب في الكرامة والحرية كما خففت قليلاً من حدة الاحتقان التي لازمت العلاقة ما بين الثوار والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير الأوضاع الآن داخل مصر.. وعلى الرغم من أن هذه المحاكمة قد كانت استجابة للضغوط القوية التي مارستها قوى الثورة فيما عُرف باعتصام الثامن من يوليو والذي يعتبره الثوار أهم الأيام بعد الخامس والعشرين من يناير حيث أدى لإحداث التغيير الوزاري الأخير كما كان المحرك الرئيس لحركة المحافظين التي انتظمت العديد من المحافظات المصرية بما يمثله ذلك من محاولة خلخلة لأركان النظام المخلوع.. الا أن العديد من الأطراف داخل المجتمع المصري والتي هي ليست بالضرورة قوى سياسية ما زالت تنظر للأمر وكأنه مسرحية سيئة الاخراج.. فكثير من الحقوقيين والقانونيين يرون في محاكمة مبارك وتابعيه على أساس جنائي محاولة للبعد عن لب القضايا التي من أجلها قد سقط الشهداء الذين تتم المحاكمة الآن على أساس قضيتهم خاصة وأن أداء هيئة دفاع المدعين بالحق المدني في الجلسة الأولى لم يكن بالمستوى المطلوب، وهو ما دعا مجلس حماية الثورة الى العمل على تكوين فريق موحد للدفاع عن الحق المدني على أساس جنائي.. وبرغم ذلك ترى هذه المجموعة أنه من الضروري اجراء المحاكمة على أساس سياسي، ومن ثم استصحاب كل القضايا المتعلقة بها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وبالضرورة كل ما يتعلق بها في مرحلة ما قبل وبعد وأثناء الثورة، بما فيها القضايا الجنائية المتعلقة بالشهداء وبالتالي عدم اختزال كل هذا في جزئية من القضية.. الشيء الذي قد يعطي الفرصة لمبارك وسدنة نظامه للتهرب مما ارتكبوه طيلة ثلاثين عامًا بحق الشعب المصري، بل والأمة العربية التي ارتهنت لاتفاقيات هزمتها سياسيًا واقتصاديًا وجعلت من النظام المخلوع بكل مؤسساته عسسًا لرعايتها. غير أن ما يثير القلق حقًا هو أن جسم النظام السياسي في مصر لم يزل كما هو دون أن يكون هناك تغيير حقيقي وجذري يمثل نقلة نوعية تُحسب لصالح القوى الثورية، فبرغم أن التغيير قد طال معظم رموز النظام وشخوصه الا أن ذلك شيء والتخلص من سياساته و«شخوصه الاعتبارية» هو شيء آخر تمامًا.. فما تزال دواليب الدولة وهياكلها تسير على نفس النسق القديم ولا تزال تحكمها «وتتحكم بها» ذات السياسات التي ثار وانتفض عليها الشعب في يناير الماضي، حيث تقودها طبقة متنفذة صنعها النظام خلال ثلاثين عامًا ولا تزال تدين له بالولاء.. وفي الوقت الذي يتجه فيه الشارع المصري بكلياته نحو متابعة المحاكمة «برغم أهميتها» الا أن هناك الكثير مما يجب الالتفات اليه ليس فقط على مستوى كنس الفساد الذي كرس له النظام وبنى له حصونًا وقلاعًا داخل مفاصل الدولة، بل يتوجب أيضًا اعادة النظر في مآلات العديد من التحركات التي يموج بها شارع الثورة الآن.. فالشارع الذي خرج بداية العام وراح يستجمع ليس الشجاعة وانما القدرة على الصمود والوقوف بوجه قوة استمدت سطوتها وجبروتها من ثلاثة عقود تمترست خلالها وراء العديد من التحصينات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والدولية والإقليمية، كل هذا أدى لأن تكون مجرد فكرة التصدي لها هي مخاطرة كبيرة ارتضى الشارع أن يخوضها دون أن يكون هناك أي يقين بامكانية الوصول بها الى غاياتها.. هذا الشارع الآن بدأ يمر بالكثير من المنعطفات التي يمكن أن تمثل خطورة قصوى على الثورة اذا لم يتم تدارك الوضع من قبل القوى الحادبة عليها.. ويبدو ذلك جليًا في حركة المطالب الثورية التي لم تعد تمثل إجماعًا يمكن الوثوق به، بل قد أصبحت خطرًا أمنيًا يوشك أن يطيح المبادئ السامية التي قامت لأجلها الثورة، وهو أسوأ ما يمكن أن يصيبها ويمنح الفرصة للقوى المضادة أن تتسلل الى نسيجها. الشارع المصري الآن يمر بمرحلة حرجة يزيدها تأزمًا أن طموحاته الثورية لا تزال تعاني في سبيل أن ترى النور وما بين البون الشاسع الذي عبرته الثورة بتخلصها من رؤوس النظام الذي أذاقها الويلات.. وبين المسافة الأطول التي ينبغي قطعها للتخلص من النظام نفسه والذي بنته عقود من الفساد تتحقق المكاسب الحقيقية للثورة.