وجّه الأستاذ عبد المحمود عثمان منصور الأمين العام للمجلس القومي للتعليم التقني والتقاني انتقادات شديدة لمسارات مناهج التعليم التقاني بالسودان، وقال إن مناهجنا التربوية تأثرت بالمدرسة اليونانية القائمة على الجدلية الفلسفية والسفسطائية ولم تأخذ من الدين ولا من تجارب الآخرين وأشار في حواره مع «الإنتباهة» لتجارب اليابانوألمانيا وكوريا وأمريكا التي نفذت إستراتيجيتها التقنية بعبقرية أذكياء العالم ووضع عبد المحمود عبر أمانته حزمة من التدابير لخروج البلاد من أزمتها الاقتصادية والمهنية المتعلقة بالتعليم التقني والتقاني وقال إننا ذهبنا في الاستقلال بأسهل استحقاقاته وتركنا مسألة الإعمار التي توجب تأسيس تعليم يجعل من مجتمعنا مهنياً كما تطرق لقضية التعليم التقني بنظرة كلية نطالعها عبر هذه المساحة: حدِّثنا عن بدايات ونشأة ومفاهيم التعليم التقني بالمنطقة العربية؟ الحديث عن التعليم التقاني والتقني لا يرتبط برجال السلطة بل برجال تغيير ومشاريع نهضة في الوطن العربي بصورة عامة ونجد أن العقلية البدوية ظلت حجر عثرة لتحويل مجتمعنا من مجتمع نقاش وجدلية.. وهذه حالت دون أن يكون مجتمعًا مهنيًا وتفريخ الكوادر والرؤية والسياسات والإستراتيجيات إن كانت على شكل الدولة بصورة منظمة وإن كانت تخطيطًا أو بفرض واقع مجتمع يصحح سياسات الدولة وإستراتيجياتها لم تكن متوافقة والملحظ العام أن أغلب القبائل ذات الاستيطان المستمر على ضفاف النيل والبحار في كل العالم هم أقرب إلى الحرفة بخلاف الذين يقطنون المناطق الأخرى فهم أقرب إلى الترحال والبداوة، ولو نظرنا للتجربة في التاريخ القديم والتجربة المصرية وقد سبقتها التجربة النوبية في السودان لأنها قامت على ضفاف النيل ومناطق مأهولة بالسكان نجد أن الزراعة أنتجت تقانة بزّت العالم في تلك الفترة، وأكبر شاهد على ذلك الدولة المروية، نبتة والدفوفة، وعليها معالم التقانة الموجودة التي تتمثل في الأهرامات كإبداع ثقافي تقاني ونظريات علمية تقنية إلى الآن لم تصل إلى كثير من مراكز بحثنا وجامعاتنا حتى على مستوى العالم الأول وهو ما أدى لكثير من اندهاش خبراء أوربا وآسيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي بل جعلهم يأتون وينظرون للتقدم المذهل جدًا في تلك الحقبة وما أوجدته من ثقافة مهنية عالية وما أفرزته الثقافة والحضارة آنذاك وهذه هي الفترة التي حدث فيها استنهاض السودان بشكله العام وحقيقة سيادته على مناطق نهر النيل إلى أن وصل إلى البحر الأبيض المتوسط وهذا يجب أن يكون محل دراسة ونحن نستدعي ذاكرة التاريخ لنرى أين نحن؟.. فنحن لسنا في مهب الريح بل نحن أمة لها جذورها. حدِّثنا قليلاً عن نهضة تلك الفترات؟ صناعة الحديد كانت في النقعة والمصورات وبها جامعة تكنولوجية شكلت التواصل مع الحضارة اليونانية، فكانت صناعة المراكب والساقية وأنتجت الغلة التي تحتاج إليها الجيوش في عمليات تشوينها، وكانت الزراعة بمعدات بسيطة إذ تعتبرالساقية تقدمًا مذهلاً جدًا وجئنا بالموروج، التكم الكوريك، المنجل، الطورية والأدوات الأخرى المستخدَمة في الزراعة وهي مسميات لم تدخل في مسمياتنا العربية وهذا تحدٍ لمراجعنا اللغوية، وحقيقة نتمنى لو أن مشروعنا الحضاري بشكله الكلي استصحب هذه المسألة وأنا أتحدث عن التعليم التقني الذي يشكل جزءًا من مشروعنا الإسلامي. ماذا حدث؟ حدث خلل في تلك المفاهيم وأدلج تاريخنا واحتكر لبعض المفاهيم والآراء السياسية، فمجرد ذكر دولة كوش أو النوبة دائمًا ما يقابلها مدرسة أبو داماك الثقافية في السبعينيات، وحقيقة هذه المدرسة جذَّرت نوعًا من الصراع والنسيان، ثم جاءت مدرسة الغابة والصحراء وقابلتها العوده لسنار لمحمد عبد الحي، وكان وقتها صراعًا دائراً في الجامعات والمدارس والساحات الثقافية مما شكَّل عقليات ثقافية لأبنائنا في تلك الفترة وأصبحت مدارس أبو داماك تميل نحو الثقافة المادية القائمة على المعلوم من الدين مما أدى لردة فعل لكثير من المتدينين لمواجهة الحراك الثقافي الاجتماعي، فلو تأسست عندنا المدرسة التربوية على مشروع تقني وتقاني منذ بدايتها لما كان الوضع بهذا الشكل، فالإنجليز عندما كانوا موجودين أسسوا مدارس كتشنر الطبية والزراعية وإلى الآن مرتبطة في العقل الأوربي بالتميُّز كأغنى مؤسسات التعليم التي تنتج كوادر تقانية بصورة غير عادية، ومثلاً المدرسة الفرنسية تعتبر غير الرؤية الجامعية، وهذا إلى الآن موجود، وأقول إننا لم نحاول أن نتفهم هذه المسألة بالصورة الصحيحة، ولو قلنا مدرسة كتنشر يجب أن تتطور في شكل مدارس لتأسيس مجتمع مهني كنا وقتها قد سرنا سيراً صحيحاً لأننا أحوج الناس للإعمار بعد الاستقلال فالإعمار هو روح الاستقلال وإلا فسيكون الاستقلال بدون قيمة لأنه يكون فاقدًا سوقه ومنتوجه وذهبنا في الاستقلال بأسهل استحقاقاته وتركنا مسألة الإعمار وكان يجب أن يتأسس عليها تعليمنا لنؤسس لمجتمع مهني مقارنة بالخروج من ظروف استعمار يحول بيننا وبين تقدمنا الثقافي، ولو قارناها بالإقلاع الحضاري الثقافي الألماني بعد الحرب العالمية الثانية وانهزام ألمانيا أمام انكفت لإعداد المجتمع المهني في ألمانيا وبالتالي 95% من تعليمها أصبح تعليمًا تقنيًا لمحاولة إيجاد الكادر المؤهل للمجتمع المهني المنتج واستصحاب التحدي في ناحية واقعية إنتاجية. كيف تتم صناعة الثورات الصناعية؟ كما قلت إن ألمانيا صنعت واقعاً مهنياً جديداً تم بناؤه وفق رؤية محددة ولو تلاحظ انتفت الاثنية والقبلية رغم أنها موجودة في ألمانيا وغيرها، واتجه الناس للمدارس المعرفية المختلفة وهذا ما صنع الثورة الصناعية في أوربا وهي قائمة على أنقاض مجتمع إقطاعي يقوم على تفاوت طبقي والناس ليسوا سواء أمام القانون والرؤية الإنسانية الكلية، وجاء المجتمع الصناعي الذي استفادت منه دول كثيرة وتم بناء مشاريع نهضوية ونماذج تقدمها على بناء مجتمع مهني، والمهنة لا تفرق بين الأبيض والأحمر، وبدأ تقييم الناس بعملها وهذه هي روح الدين، والألمان قاموا ببناء مجتمعهم المهني وعوضوا بسرعة شديدة الفاقد للكوادر الناشطة والمهنية التي فقدوها في الحرب، وفي الإطار الكلي ننظر إلى أمريكا كيف استفادت من العلماء الألمان وأعطتهم الجنسية الأمريكية وهي الآن لا تراهن على العقلية الأمريكية ذات الجنسية والجواز ولكنها تراهن على كل أذكياء العالم في المجال التطبيقي في الصناعات الحربية والزراعية ومن ضمنها شيخنا محجوب عبيد كرجل فيزيائي له قدره في وقت نحن طردناه من جامعة الخرطوم لاعتبارات سياسية وإلى الآن أمريكا تحصل لها تغذية سنوية بإستراتيجية محددة في المجالات المحددة لذلك ظل التفوق الأمريكي قائمًا على عبقرية العالم كله وليس على الأمة الأمريكية هذا يرجع إلى أن أمريكا اتجهت نحو المجتمع التقاني. ماذا عن السودان؟ نحن في السودان لم نلحظ وأنا أقول في تجربة واضحة جدًا يمكن أن نقول إنه في زيارة لكوريا وفي إطار جلسه تفاكر مع خبراء وزارة العلوم والتكنولوجيا تساءل أحد الخبراء باندهاش: كيف للسودان أن يبحث في العام 2009 و2010م عن كيفية بداية المدرسة الكورية وانتصار المدرسة الكورية التقنية والتقانية؟ وقال في الستينيات من القرن الماضي طلبنا بعثة من اليونسكو لتضع مناهج تؤسس لمنظومة التعليم في كوريا، وقال عدد من أفراد تلك البعثة كانوا سودانيين وأنا أعرف منهم أساتذة في المهعد الفني درّسونا فكيف تأتون للبحث عن التجربة وأنتم ساعدتم في بناء النهضة الكورية التعليمية، وقال إن معهد الاستشارات الصناعية الموجود في السودان كان ذات المعهد الذي أُسس في كوريا، فأين معهدنا وأين المقارنة؟ وأضاف بقوله: في إطار المقاومة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي كان هناك تجاذب وتم عمل ضمان من البنك لشركة داو الكورية والسودان بضمان شركة شرف العالمية فأين شرف وأين داو؟. ميلاد اليابان؟ ويواصل الأستاذ عبدالمحمود حديثه ويقول: اليابان بعد ضربها اجتمع لأول مرة امبراطور اليابان بمجلس الوزراء والأعيان وأتوا بعالم ليسألوه عما يحدث وأخبرهم بما حدث من ناحية علمية فقال: الآن تولد اليابان بصورة جديدة، وهذه بداية النهضة اليابانية، مع العلم بأن اليابان لا تملك أراضي ولا مناجم ولا بترولاً ولكن بها عقول. وفي تقديري أن ما قامت به اليابان هو إعمار الأرض كتوجيه رباني، فأين تفسير إعمار الأرض في مناهجنا التربوية وبمنطلقاته الكلية وبالتعبد، ومن المعلوم أن أهم رسالة كلف الله بها البشر هي إعمار الأرض فمن أين يأتي الإعمار هل يأتي بالخطط ونحن حقيقة لم نأخذ من الدين ولا من التجارب للأسف حتى ولا في مناهجنا التربوية وقد تأثرنا بالمدرسة اليونانية القائمة على الجدلية الفلسفية والسفسطائية ويا ليتنا أخذنا من المدرسة الرومانية لأنها قائمة على التقانة، وفي السودان تجد المدرسة الرومانية لها أثر تقاني ونحن حقيقة آثرنا الفلسفة والجدلية حتى في مدارسنا الفقهية أُبعدت نظرية التعبد بصورة تطبيقية إلى جدليات ياريت لو كان كذا وكذا وهذا إشكال في المدرسة التربوية وتأسيس نوعية التعليم المرتبط بقضايانا وهو إشكال يمكن أن نلوم الاستعمار ونقول أيضًا نلوم أنفسنا لأنه ترك مدرسة كتشنر والنقل الميكانيكي للسائقين ومدرسة النجارين والخياطين ولو قلنا للاستخدام الخاص به وإنه لا يعطينا المعرفة التي يمكن أن نمسك بها سوقنا لكن على الأقل أوجد نواة لهذا النوع من التعليم والاصطراع الذي حدث ما بين النظرية التطبيقية والنظرية أحدثت شرخًا في العملية التعليمية التربوية. جيل الميرسيدس الإنسان الأروربي لا يهمه ما هي قبيلته بل ما هي مهنته، ولا تقاس الوضعيات المجتمعية بالقبيلة كأن يقول أحدهم بفخر «أنا جيل الميرسيدس» في ألمانيا وجعلها على قائمة والتقدير المعنوي والمادي يقوم على الحرفة وبالتالي تماسك المجتمع وتجعل الناس يتكاملون لأنه يمكن العمل في القطاع الزراعي والصناعي والإنتاجي والمعادن والصحة وغيرها فيحدث التكامل وأنت من حيث المنظومة الفلسفية والمعرفية ومن الثقافة. في الحلقة القادمة يتواصل الحديث عن واقع التعليم التقني بالسودان ورؤيته المستقبلية.