كنت قد نشرت جزءاً من هذا المقال قبل عامين، ولما رأيته من الحاجة لنشره أُعيد نشره وهو رسالة إلى الإخوة السماسرة وهم يحبذون أن يسموا ب «الوسطاء» فأقول لهم: هذه رسالة أوجهها إليك أخي السمسار، من أخٍ يحب لك ما يحبه لنفسه من الخير، فإن من المعلوم في شريعة الإسلام أنه لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير. أخي الفاضل السمسار: كن على ثقة أن من سطّر لك هذه السطور يدعو لك بالتوفيق والسعادة في الدارين، ويبتهل إلى الله تعالى أن يرزقك الرزق الحلال الوفير والمال الكثير، وأن يجعل ذلك عوناً لك على طاعة الله ومرضاته، وقد قال النبي صلى الله عليه سلم : «نعم المال الصالح للمرء الصالح» رواه الإمام أحمد وغيره. وقبل أن أسطر لك كلمات رسالتي هذه فإنه يتحتم عليَّ أن أنبه بهذين التنبيهين المهمين: الأول: أرجو ألا يتطرق إلى ذهن أحدٍ من القراء الكرام أني أريد بهذا المقال تحريم العمل ب «السمسرة» في أصله ومبدئه، كلا، فإن من المعلوم أن الفقهاء قد بينوا أن من يتوسط بين البائع والمشتري ويأخذ مقابل ذلك مبلغاً محدداً من المال أن عمله هذا جائز وكسبه حلال، ويذكرون هذه المسألة في باب «الجُعالة» من أبواب الفقه، وقد بينوا بتفصيلٍ كل ما يتعلق بما يعرف ب «السمسرة» في ذلك الباب من كتبهم، وأنه يجب على السمسار أن يلتزم بالشروط التي يشترطها البائع والمشتري، طالما كانت تلك الشروط لا تخالف الشريعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً» رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما. وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: «لم يرَ ابن سيرين وعطاء ابن أبي رباح وإبراهيم النخعي والحسن وسواهم بأمر السمسار بأساً ».. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: «وكأن المصنف ويقصد الإمام البخاري أشار إلى الرد على من كرهها». الثاني: كما أرجو أيضاً ألا يفهم خطأً أحدٌ من القراء بأني أعمم برسالتي على «جميع السماسرة» وكل من يعمل بالسمسرة، وهذا الفهم إن حصل غير صحيح، فإن ما سأذكره من مخالفات شرعية وتصرفات هي مما يصدر من «بعض» السماسرة وليس من «الكل»، إلا أنه مع الأسف أصبحت تصرفات من يخطئ وإن كانوا البعض هي السائدة، والأكثر شهرة. فأؤكد أني أقصد برسالتي هذه «بعض» من يعملون بالسمسرة وليس الجميع، فإن الكثيرين من السماسرة يتحرون الصدق والأمانة وتحقيق تقوى الله تعالى في تعاملاتهم وهذا هو الأصل أسأل الله تعالى لهم الثبات والتوفيق. ومع ذلك فإني آمل أن تصل رسالتي هذه إلى جميع من يعمل بالسمسرة ويتكسب بها، والحق ضالة المؤمن أنى وجده أخذ به ولزمه. وبعد هذين التنبيهين المهمين فإني أشرع في تسطير رسالتي إليك أخي السمسار، وأضع كلماتي في وقفتين: الوقفة الأولى: تجنب أخي السمسار الوقوع في «الكذب»، فإن بعض السماسرة يقعون في الكذب ويدفعهم إلى ذلك: الحرص على إتمام وإنفاذ البيع الذي يتوسطون فيه، أو الحرص على أن لا يتم البيع إلا عن طريقهم، أو تزيين السلع التي يقومون بتسويقها، حتى يتم لهم التوصل إلى نصيبهم من المال. ألا تعلم أيها السمسار أن الكذب من الخصال الذميمة والصفات السيئة؟! بل هو من صفات المنافقين! قال الله تعالى عن المنافقين : «ويحلفون على الكذب وهم يعلمون» وقال سبحانه عنهم : «والله يشهد إن المنافقين لكاذبون». وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أربع من كنّ فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهنّ كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» رواه البخاري ومسلم. أترضى أيها السمسار أن تكون فيك صفات أهل النفاق؟! لماذا تقع في الكذب وقد علمت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» رواه البخاري ومسلم. هل وعيت هذا الوعيد العظيم؟! إني أدعوك يا من يقع في الكذب ليتحقق له ما يريد من مكاسب، أدعوك إلى أن تقف مع نفسك وقفة صادقة وتقارن بين ما تحصل عليه من «حفنة» من المال قد مُحِقَت بركتها بسبب الكذب، وبين النار وغضب الجبار. إنه مسار كله وعيد وأخطار، فهو طريق إلى النار، وهي دار الخزي والنكال والبوار. هل ترضى لنفسك أن تكون أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؟ وهم: المسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب والمنان بعطائه، والحديث في صحيح الإمام مسلم. ولا أظن أني بحاجة إلى أن أستطرد لأذكر نماذج من الكذب الذي يقع فيه الكثيرون من السماسرة في أسواقنا السودانية المختلفة، ولكن لا بأس من الإشارة بذكر بعض تلك النماذج: إن بعض السماسرة يغرر ببعض المشترين ويقول له: «هذه السلعة دفعوا فيها المبلغ الفلاني» أو «جابت كده» ويحدد مبلغاً بعينه، ويكون الواقع خلاف ذلك، أو يقول: «يريد أن يشتريها الشخص الفلاني وإذا تأخرت سيسبقك لشرائها»، وقد لا يكون هناك من في نيته الشراء فضلاً عمن يكون قد عزم على الشراء. وأحياناً يكون الكذب من السمسار على البائع، فيكذب ويقول له مثلاً : «ما حا تجيب سعر أكثر من كده» وقد يكون هو على علم من أن هناك من يريد شراءها بأكثر، ولكنه يريد أن تكون تلك الزيادة له، ويصبح ينسج خططاً لكي تكون تلك الزيادة خالصة له من دون الناس. وقد يحصل العكس فيكذب على البائع بأن قيمة السلعة أكثر مما دفع فيها، أو يزيد على المشترين ويضع مبالغ من عنده «خرافية» ويقول لهم «هكذا يريد البائع»، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل في الوقفة الثانية. وقد يكذب على البائع بأن يقول له «الشركة الفلانية دفعوا المبلغ الفلاني» والواقع أنه ليست هناك شركة ولا خلافه، وإنما هو إيهام، وينتج عن ذلك أن يعتذر البائع للمشترين الحقيقيين، لينتظر سراباً بقيعة يحسبه ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً!!! وحتى يضمن السمسار استمرار تخصيصه بعرض السلعة دون غيره من السماسرة، يصبح يرص كل يوم «بلكات» من الكذب!! فيقول لهذا الأسبوع «المدير بتاع الشركة مسافر وحا يجي بعد أسبوع» وبعد مضي الأسبوع يتجرأ على كذبة أخرى هي أكبر من أختها، فيقول للبائع المسكين الضحية المنتظر: «الشيك في التوقيع وأيام وتقبض» وهكذا دواليك، ولعاب الأخ البائع قد سال، وخطط ورسم وقسم المبلغ في خياله ونفذ مشروعاته، وهو لا يعلم أنه بين يدي كذاب أفّاك لم يتق الله فيه، فلعب به يميناً ويساراً حتى تباع السلعة عن طريقه هو فقط. فلا بارك الله في رزق يكون بطريق الكذب، وهذه الحيل الملتوية، واللف والدوران، والخديعة لعباد الله، فلتنأ ولتبتعد بنفسك أخي السمسار عن هذا المسار، فإنه بلا شك مورد للنار، وبئس دار القرار.