أما وقد تم تشكيل الحكومة ذات القاعدة العريضة ورغماً عن عرجها البائن في مشيتها وهي تخطو نحو الجمهورية الثانية، إلا أنه يجب عليها تصحيح المسار ومراجعة خط السير وأن تخوض حربين شديدتي الضراوة وبلا هوادة كمقدمة لتصحيح هذا المسار، الحرب الأولى على الفساد، أما الثانية فعلى الفقر والفاقة، وكلاهما قد استشري بشكل مثّل ظاهرة لابدّ للدولة من القضاء عليها قضاء مبرماً. فالفساد بكافة صوره هو «فايروس» شديد الخطورة يتوجب على ذات العريضة أن تعدّ العدة لمكافحته والقضاء عليه مهما كلفها ذلك من تبعات وتداعيات وآثار جانبية مؤلمة، لأن ألم القضاء عليه أقل خطورة وأهون من تركه ينخر في جسد البلد حتى يقضي عليه. أما الفقر فهو الآخر لا يقل في خطورته عن الفساد، وقد قال عنه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» ملخصاً لنا وللتاريخ الإنساني كله أن أُس المشاكل والجوائح هو الفقر. فعلى الدولة واجب دستوري وديني وأخلاقي ينبغي أن تقوم به تجاه مواطنيها بما يدرأ عنهم مصيبة الفقر والعوز والحاجة فحتى الدول التي تعتمد في نظامها الاقتصادي علي اقتصاد السوق فإن عليها واجباً ودوراً اجتماعياً يتمثل في حماية الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل من تغوُّل وجموح الاقتصاد الحر وتقلبات السوق وذلك بالتدخل المباشر وغير المباشر لصالح هذه الفئات بتقديم الدعومات بصورها وأشكالها المختلفة بحيث تستطيع الفئات الضعيفة وهي قطاع عريض جداً الحصول على السلع والخدمات الأساسية بأسعار تناسب دخولهم. ثم هناك التعليم الذي يحتاج إلى «ثورة» حقيقية وليست مجرد شعارات، هذه الثورة ينبغي أن تبدأ بتغيير المفهوم التقليدي عن التعليم الذي ظل سائدًا في ظل الحكومات المتعاقبة حيث ينظر إليه من خلال منظار السياسة الذي ينظر إلى وزارة التعليم على أنها وزارة تصنف ضمن وزارات الذيل و«المحاصصة» في قائمة الحقائب الوزارية رغم أن نهضة وتطور وتقدم الأمم يقوم ويعتمد أساساً على التعليم، فإذا فسد فسد سائر عمل الدولة وإن صلح صلح سائر عملها، لذلك يجب اعتبارها من الوزارات الإستراتيجية شديدة الأهمية. وكذا الحال بالنسبة إلى الصحة فقد كانت وما تزال من الوزارات التي «يعافها»المتنافسون على الحقائب الوزارية وقد ظلت هذه الوزارة بمثابة «بزازة» تمنحها الحكومات الوطنية المتعاقبة للكيانات السياسية خفيفة الوزن لإسكاتها، وقد سارت هذه الحكومة على ذات النهج الخاطئ بمنحها للقادمين من التمرد وآخرهم «أبو قردة»، وهو فهم مغلوط للصحة والتي ينبغي أن تكون في صدر قائمة الوزارات المهمة، فبدون صحة يستحيل أن ينتظر الناس حدوث تنمية وتطور في المجالات كافة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والرياضية، وبالتالي فإن الجمهورية الثانية لا بدّ أن توليها الاهتمام الذي تستحقه. وبالنسبة إلى الإعلام فعلى الدولة التفكير في احتذاء نموذج الدول المتقدمة وذلك بتوسيع الحريات الصحفية وحرية التعبير في إطار القانون والقيم الثقافية السائدة وأن يكون للدولة دور في الإعلام تمارسه من خلال المنافسة الحرة في«سوق» الإعلام عبر أجسام إعلامية وبخاصة الإذاعة والتلفزيون تكون المهنية هي الأساس في عملها لضمان بقائها فاعلة على الساحة الإعلامية واكتساب قدرة تنافسية تكفل لها تحقيق التوازن المنشود في هذا السوق باعتبار أن للدولة دوراً اجتماعياً بحكم قِوامتها على المجتمع. والإعلام الحر يساعد في تيسير مهام الأجهزة الرقابية المعنية بالرقابة على أداء المؤسسات الحكومية المختلفة وبالتالي فهو يسهم في ردع المفسدين وتجفيف منابع الفساد. والسياسة الخارجية لذات القاعدة العريضة يجب أن تنطلق حركتها من المحيط الإقليمي للسودان على أساس مبدأ حسن الجوار وتبادل المصالح، وأكبر تحدٍ في هذا الصدد هو نقل العلاقات الثنائية بين السودان وجمهورية جنوب السودان من مربع التوتر والصراع الحالي إلى آفاق السلام والتعاون والاستقرار، كذلك إيجاد وتطوير معادلة دقيقة لإدارة علاقات السودان مع كل من إثيوبيا وإريتريا بحيث تتيح للسودان الحفاظ على علاقات ممتازة ومتطورة مع كلتا الدولتين بالنظر إلى السوء المزمن في العلاقات بين الدولتين منذ استقلال إريتريا عن إثيوبيا ولما للسودان من مصالح وروابط عديدة مع الدولتين على حد سواء فعلى السياسة الخارجية في الجمهورية الثانية أن «تعدل» في علاقاتها مع الدولتين فلا تميل كل الميل لإحداهما فتذر الأخرى كالمعلقة لأن كل واحدة حساسة تجاه الأخرى وفي إمكان أية واحدة منهما إيذاء السودان وقد جرّبنا ذلك من إثيوبيا «منغستو» في عهد نميري وجربناه من إريتريا «أفورقي» منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ولعقد كامل، كما يتوجب على الدبلوماسية ألا تهدر الجهد والوقت في اتجاه كسب الود الأمريكي فهو ود لن يدرك أبداً إلا عندما تطير الخنازير كما يقول المثل الإنجليزي when pigs fly، فسياسة أمريكا تجاه السودان تحكمها منطلقات آيدولوجية مسبقة لا تتغيرstereo- typed وفي خط متوازٍ مع ثوابت سياستنا الخارجية وعوضاً عن ذلك عليها توفير هذا الجهد والوقت وتوجيهه نحو الدول التي لا تنطلق في علاقاتها الخارجية من قواعد آيدولوجية بل تتعامل بمبدأ المصالح المتبادلة وليس بمبدأ أحادية المصالح، فأمريكا لا تعاملنا بهذا المبدأ لسبب بسيط وهو أنها لا ترى فينا نداً لها بل ترى علاقتها بنا من خلال صورة ذهنية جامدة تجد مرجعيتها في النزعة الرأسمالية الاستعمارية التي تقوم على علاقات القوة المادية وبالتالي فإنها لا ترى هذه العلاقة سوى أنها علاقة القوي بالضعيف، السيد بالخادم .