الظروف المعيشية الطاحنة اضطرت الكثيرين من أبناء الولايات إلى الإقامة الجبرية في ولاية الخرطوم بعيدًا عن أسرهم وزوجاتهم، وفي ذات الوقت لا طاقة لهم بالأرقام الفلكية للإيجار حتى يتسنى لهم الإتيان بأسرهم للإقامة معهم مما يحدو بأحدهم السفر إلى ولاياته كل أسبوع أو «خمسة عشر» يوميًا، في ظل تلك المعطيات العصيبة نجد أن الزوجات هن الأكثر تأثرًا من تلك الظروف المفروضة عليهن قسرًا؛ فتجد الزوجة نفسها مسؤولة مسؤولية تامة عن إدارة دفة المنزل والأبناء ومشكلاتهم ومطالبهم التي لا تحدها حدود وعندما يأتي الزوج إلى أسرته في إجازته القصيرة التى لا تتعدى يومين بالكثير نجد أن الزوجة تتعامل معه معاملة الضيف غير المقيم، ولا يكون هنالك مجال للنقاشات الأسرية حول الحاضر والمستقبل وربما قضى الزوج إجازته في المجاملات الاجتماعية.. «البيت الكبير» أجرى استطلاعًا مع عدد من أبناء الولايات لمعرفة رؤيتهم لهذا الموضوع كما استعنا بأهل العلم لإلقاء الضوء على هذا الموضوع من نواحٍ علمية واجتماعية. ٭ بداية كانت وقفتنا مع «قسم الباري» صاحب سوبر ماركت بمحلية كرري الذي ابتدر حديثه قائلاً: كنت مغتربًا لسنين عددا بإحدى دول الجوار ولكن شاءت إرادة الله أن يتم الاستغناء عني كفائض عمالة وعندما تمت تصفية حقوقي أتيت أدراجي للسودان، وقد كنت قبلها آتي كل ثلاث سنوات ولفترة وجيزة لذا لم تكن لدي فكرة عن الوضع الاقتصادي المأساوي للبلاد، المهم بعد حضوري لم يكن أمامي خيار سوى هذه البقالة حيث قمت بتجهيزها على أحدث طراز، ولكن واجهتني مشكلة أخرى حيث إن زوجتي وأبنائي يقيمون بإحدى الولايات، وقد حاولت مرارًا وتكرارًا أن أهيئ لهم سكنًا هنا في أم درمان لكنني لم أوفق بسبب تكاليف الدراسة الباهظة بالنسبة للأبناء أضف إلى ذلك أسعار الإيجار الخرافية.. ٭ «ح .م .م» شاب في الأربعين من عمره يعمل بائعًا متجولاً وقفت عنده وأنا استعرض بضاعته وتجاذبت معه أطراف الحديث ليحكي لنا قصته قائلاً: أنا من الولايات وبمساعدة الأخوان تمكنت من الحصول على تلك البضاعة لأقوم بتوزيعها ومن ثمّ تزوجت وقمت بإيجار غرفة واحدة تسعني أنا وزوجتي وطفلي القادم ولكن «عينك ما تشوف إلا النور» فقد أصبح منزلي رغم ضيق مساحته قبلة لأهل البلد «الغاشي والماشي» وكما ترين أنا أعمل على كسب عيشي يوم بيوم وبالكاد يكفيني وزوجتي ومتابعتها للطبيب وبالطبع لم اتحمّل هذا الوضع وتراكمت عليّ عدد من الشهور لم أدفع فيها الإيجار مما اضطرني لإرجاع زوجتي إلى ولايتنا لتقيم مع أسرتي رغم صعوبة الوضع وتضجرها منه في غيابي لكن لا مفر ولا بد مما ليس منه بُد. ٭ «علوية» جاءت في زيارة قصيرة للخرطوم لتشهد تخريج ابنها من الجامعة وعندما تناقشنا معها في هذا الأمر قالت: زوجي مقيم هنا بالخرطوم لما يربو عن عشرين عامًا وهي عمر ابني البكر وتحتم عليه ظروف عمله الأتيان إلينا كل شهر مرة وقد اكتويت بنار بعاده عن أبنائه خاصة في مرحلة المراهقة التي تتطلب الرعاية والحزم ولكن بتوفيق من الله قُدت دفة الحياة لترسو بنا في بر الأمان فابني اليوم خرّيج وابنتي زواجها في مطلع العام المقبل. ٭ وختامًا نبه الباحث الاجتماعي الدكتور أنس العبيد من عدة مخاطر تأتي من خلال ذلك الوضع الاجتماعي حيث قال: هنالك مخاطر عديدة تأتي من خلال ذلك الوضع وما يصاحبه من ارهاصات متمثلة في التفكك الأسري خاصة حال وجود الأبناء لأن الزوجة وحدها لا تقوى على ذلك واستطيع وصف هذا الوضع بالهجرة أو الاغتراب الداخلي والتي تلعب فيها المادة الدور الرئيس لذا أنوه إلى ضرورة وجود حل وسط حتى يتحول الأمر ليصبح ظاهرة وحالة اجتماعية ومن ثمّ يتطوّر إلى قضية لأن معظم المشكلات الأسرية تأتي من تلك الظروف حيث إني قمت ببحث اجتماعي في عدد من الولايات توصلت فيه إلى 50% من المشكلا ت الأسرية سببها غياب الأب، وأتمنى أن تتحسن الأوضاع المعيشية للفرد وأن يحدث اكتفاء من الهجرة الداخلية والخارجية؛ لأن ذلك سيسهم في الاستقرار الاجتماعي والمادي.