يلاحظ القادمون من ولاية جنوب كردفان إلى شمال السودان إن الحرب الدائرة في تلك الولاية لا تشغل بال أحد ولا تأخذ قدرها من الاهتمام، كما لو أن ما يحدث هناك يخص دولة أجنبية لا تؤثر الأحداث فيها على مجريات الأمور في السودان.. حتى الإعلام القومي فإنه يتناول معركة الحرب في جبال النوبة بردود أفعال تتعلق بنتائج المعارك فقط وما خلفته من قتلى وجرحى وما كبدته القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى للحركة الشعبية من خسائر.. أو نسمع ونشاهد ندوات ومؤتمرات صحفية هنا وهناك.. يلاحظ أيضاً على الصعيد الرسمي تناول الأمر كما لو أنه مسألة ثانوية لا ترقى إلى القمة في تراتيبية أجندة الدولة.. ولا يتم تناول ما يحدث في جنوب كردفان الآن كأزمة حادة وملحة لها خطورتها ومهدِّداتها المحلية والقومية.. وبالرغم من خسارات الحركة المتلاحقة منذ هجمة 6/6 إلا أنها تحارب بإصرار لا رجعة فيه.. ولا يهمها كم فقدت من الأرواح وكم خسرت من السلاح.. السلطات المعنية في المركز تتعامل مع الأمر على أنه سهل ويمكن حسمه متى ما تقرر ذلك.. هذا فضلاً عن تصريحات المسؤولين التي تقلل من قدرة الحركة على إدارة الحرب.. أما نحن مواطني الولاية الذين نكتوي بنيران هذه الحرب اللئيمة فإن لنا وجهة نظر مغايرة لكل هذا السيناريو. من أسبابنا أن في كل معركة تخوض فيها القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى معركة ضد الحركة الشعبية فإن تلك المعركة تخلف وراءها خسائر في كل المجالات بدءاً بالأرواح وحتى الرصاص الطائش الذي قد يصيب المواطنين.. هذا لأن المسألة لا تتعلق بقلة أو عدم الخسائر في الأرواح من جانب الحكومة ولكننا نعني الخسائر كافة.. هذا لأن الجندي في الحركة الشعبية غرر به وسيق إلى محرقة الحرب رغماً عنه.. مما يستوجب البحث عن حلول وبدائل مختلفة لمعالجة الأزمة بجانب الحسم العسكري. لأن الحسم العسكري وحده لا يكفي. ففي أمر جنود الحركة الشعبية فقد تآمرت عليهم حركة جون قرنق وأبقتهم جهلة وأميين في الوقت الذي كانت ترسل فيه جنودها الى مختلف مدارس وجامعات العالم. ثم وضعت العراقيل أمام قادتهم من أبناء الولاية وتركت أمر توجيههم المعنوي للقيادات الجنوبية. ثم قامت تلك القيادات الجنوبية وعلى مر السنين بحشو عقولهم ونفوسهم بالكراهية المفرطة لكل ما هو شمالي حتى وصل تصنيف السودانيين إلى أحد أمرين لا ثالث لهما، وهي إما أن تنتمي للحركة أو تكون عدواً لها وتعامل على هذا الأساس، والتعامل معناه التصفية الجسدية. أما قيادات الحركة فهي قد كانت الى جانب حركة قرنق حتى فصل الجنوب وما يزال البعض منهم يتم استخدامهم لقيادة الحرب في الولاية. هذا الوضع الكارثي دفع الآلاف من جنود الحركة في الولاية إلى أن يضعوا السلاح وينصرفوا لحياتهم الطبيعية كما وأن الذين ما يزالون يحملون السلاح يتصلون بأهلهم وأقاربهم في الولاية ليؤكدوا لهم عدم رغبتهم في الحرب ورغبتهم في وضع السلاح ولكنهم لا يجدون الى ذلك سبيلاً.. ولأن مجرد الكلام عن السلام أو إنهاء الحرب سيعرضهم للقتل. ايضاً هنالك الآلاف من جنود الحركة ممن وضعوا سلاحهم واستطاعوا الهرب واللجوء الى بعض المدن والقرى السودانية ولكنهم يخشون العودة الى الولاية نسبة الى حرب الإشاعات المستعرة وما ينقل لهم عن تصفيات لمجرد عودتهم الى الولاية. وما العدد الذي انضم لحركة دانيال كودي الا تأكيد لما ذهبت اليه لذلك فان اهتمام الحكومة بالزاهدين عن الحرب يجب أن يأخذ منحى آخر واهتماماً بالغاً. هذا لأن كل شمس تشرق على تلك الولاية في وضعها القائم تكلف البلاد ما لا يمكن تعويضه وتترك كافة الاحتمالات قائمة. السلاح الذي تستخدمه الحركة الشعبية متطور واكبر بكثير من إمكاناتها الحربية.. حتى الطعام واللوجستيك لا يدخل ضمن إمكانات حرب عبد العزيز الحلو. اما فيما يتعلق بدويلة جنوب السودان فإن تدخلها وإدارتها للحرب الدائرة في الشريط الحدودي الجنوبي السوداني لا يحتاج إلى شرح، وهو موثق بكل تفاصيله. كما ان القوات المسلحة السودانية في الولاية لديها من الأدلة المادية ما يكفي ويفيض. حتى طائرات الأممالمتحدة التي يتم طلاؤها بالطين وتستخدم لنقل المؤن لقوات عبدالعزيز ثم تنقل الجرحى بعد المعارك موثقة بالصوت والصورة. الشاهد أن كل الدول والجهات الدولية التي تعمل بشكل محموم لإسقاط نظام الخرطوم من بوابته الجنوبية لا تخفي شيئًا.. وحتى أمريكا وإسرائيل اللتان تعملان بتحدٍ سافر لإسقاط نظام الخرطوم لا يهمها أمر الأدلة هذه. وعودة لدويلة الجنوب يكفينا خطاب سلفا كير عند إعلان الدويلة. إن تصريح «طائر الشؤم» باقان أموم حينما قال: لن ينعم الشمال بالاستقرار، ثم أضاف فيما بعد الجن الأزرق لن يثنينا عن أبيي.. ثم تصريح بابا الفاتيكان بأن الدولة الإسلامية في السودان مهدد خطر للمسيحية في القارة السمراء، ثم تصريح الولاياتالمتحدةالأمريكية بأنها تخطط لأن تجعل من دولة الجنوب «دولة وظيفية» لتخدم أغراضها في افريقيا والشرق الأوسط.. كذلك تصريحها بأنها تنوي بناء أكبر قاعدة عسكرية في إثيوبيا لضرب الإرهاب في المنطقة.. ثم إصرار أمريكا على أن يظل السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.يضاف إليه هرولة إسرائيل للاعتراف بدولة الجنوب ثم قبول الأممالمتحدة عضوية تلك الدويلة في زمن قياسي. ثم زيارة نتنياهو للجنوب ورد سلفا كير على تلك الزيارة وتصريحه بأن الدولتين قد اتفقتا على «القضايا كافة». هذه الهجمة الشرسة من كل الدول التي تعمل على التدخل في السودان تجعل موقف السودان صعبًا، لأنه وبالرغم من التدخل الدولي في السودان منذ أن كان السودان، فإن الأمور لم تصل الى هذا المستوى من السعار العالمي كما يحدث اليوم. ثم نأتي لموقف المعارضة السودانية التي تخلط بين المعارضة للوطن والمعارضة للنظام.. لذلك فإن الموقف بالنسبة لنا نحن شعب جنوب كردفان هو إما أن توافق الحركة في جرائمها وتمهد للاستعمار الجديد او ان ترفض هذه الحرب علانية ثم تبحث عن حلول عقلانية لمعالجة الشأن السوداني حسب ما تراه مناسبًا. وأي حزب او جهة معارضة تساند الحركة الشعبية في حربها الدائرة فهي ضد الوطن والولاية.. بمعنى أن التلاعب بالكلمات وتبديل المواقف والوقوف في المنطقة الرمادية مرفوض تمامًا من جانبنا. نعطي مثالاً بمواقف المعارضة المتذبذبة ونستشهد بتصريح لفضل الله برمة القيادي في حزب الأمة علقت عليه الإنتباهة في زاوية «قالوا ولم نقل» العدد 2065 بتاريخ 8 ديسمبر 2011م قائلاً: «بيننا وبين الحركة الشعبية علاقة طيبة وتعاون متواصل في التجمع الوطني.. ونحن من قدم الحركة للعالم العربي لأنها كانت أكبر حلفائنا. وكان خلافنا معهم في أن مشكلات السودان لا يمكن أن تُحل بصورة ثنائية وهي التي ادت للتدخل الأجنبي». اولاً كان يجب ان يقرأ فضل الله برمة الورقة التي قدمتها الحركة الشعبية في مؤتمر ترتيبات المرحلة الانتقالية في السودان في كمبالا سنة 1989 ليعرف رأي الحركة الشعبية حول حزب الأمة.. الورقة التي قدمها أحد منسوبي الحركة الشعبية وهو محامٍ مقيم في المانيا آنذاك. وكان من المفروض ان يعرف بما حل لمبارك الفاضل في ذاك المؤتمر من حرج باعتباره ممثلاً لحزب الامة حينئذٍ ما كان يمكن ان يكذب كل هذا الكذب الفاضح حول علاقة حزبه بالحركة الشعبية.. فضل الله برمة هو قائد حرب المراحيل في جبال النوبة سنة 1986م. في ديمقراطية الصادق المهدي الثالثة بكل بشاعتها وعنفها وشراستها ولؤمها. وحرب المراحيل تلك هي البذرة التي نجني حصادها المُر منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.. وإن حرب المراحيل هي التي دفعت أبناء ولاية جنوب كردفان للانضمام لحركة قرنق حينما حارب البقارة لصالح الصادق المهدي ثم ندموا فيما بعد وقرروا ألّا يحاربوا بالوكالة مرة اخرى، تصرف عبثي غر مسؤول جّر على البلد ويلات العذاب.. وما يزال قادة تلك الحرب اللعينة يُدلون بمثل هذه التصريحات الرعناء. ومهما فعل الصادق المهدي او قال أو استمات في المعارضة ليعود مرة اخرى فإن ولاية جنوب كردفان لن تنسى تلك الحرب الكارثية.. اما ان حزب الامة يتحدث عن ثقل سياسي في تلك الولاية فهذه أحلام الفتى الطائر ولا شيء سواها. اما الاحزاب الأخرى التي ادمنت الانتظار والمناورات السياسية وتلون مواقفها حسب النشرة الجوية السياسية في السودان فإنها لا تعني شيئاً بالنسبة لإنسان الولاية الذي أفاق من ثقته في تلك الأحزاب. وإذا كان الشعب السوداني لم يخرج الى الشارع لإسقاط النظام حتى الآن، فذلك لأنه لا يريد عودة الصادق المهدى او حسن الترابي او نقد.. قادة احزاب الثلاثة شعب لا ظليلة ولا تغني عن اللهب. الشعب السوداني يعرف ما يريد.. وكيف يحصل على ما يريد وحتى يحصل على ما يريد وبالشكل الذي يريد.. وعلى أحزاب «الندامة» السودانية ان تكف عن هذا التهريج والقفز البهلواني في كل الاتجاهات وان ترحم نفسها وترحمنا لأننا سئمنا هذه المسرحية الهزلية سيئة الإخراج.